بقلم: حسن إسميك – العرب اللندنية
مهما حاولت أيديولوجيا الحركات الإسلامية الحفاظ على عناصر تماسكها وادعائها للحداثة فإنها تبقى مهددة بالفشل، وهو ما يقف عائقا أمام قدرتها على الوصول إلى السلطة أو الحفاظ عليها في حال استطاعت القبض على مقاليدها.
الشرق اليوم- رغم أن جوهر الإسلام وشعاره الأساس هو التوحيد، توحيد الله عزّ وجلّ، فإن الوحدة لم تكن يوما جوهر أمة المسلمين، بل كان التمايز سمة غالبة عبر التاريخ الإسلامي منذ انتهاء عصر الخلفاء الراشدين، أي بعد قرابة ثلاثين عاما على وفاة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وحتى يومنا هذا.
ويبرز الانقسام الأقدم والأكثر حضورا لدى المسلمين في فريقين اثنين كوّنا المذهبين العقائديين الرئيسين في الإسلام، السني والشيعي، ورغم الاختلاف الكبير بينهما، فالفروقات لا تقتصر عليهما وحدهما، بل تنسحب على فرق ومجموعات وملل في كلا المذهبين، تتمايز عن بعضها البعض داخل المذهب الواحد أيضا، وقد تطورت هذه الفروق وتبلورت عبر تاريخ طويل نسبيا من التقدم الحضاري والتغيرات الاجتماعية وتبدل الأزمنة والأمكنة. والأهم من هذا وذاك، فهي صُقلت عبر الصراع السياسي المستمر بين القوى المتنازعة على السلطة، والتي اتخذت الدين ذاته كأيديولوجيا لإدارة هذا الصراع والانتصار فيه.
والسؤال الذي أود طرحه هنا: لماذا لم تفضِ عقيدة التوحيد إلى الوحدة؟ هل يكمن السبب في الدين أم في الإنسان الذي جاء الدين لإصلاح أمره؟
يرتكز هذا السؤال على واحدة من أهم مشكلات علم النفس الديني الذي لا يناقش الدين من حيث مصدره وصحته، بل يتناوله على أساس سلوك المؤمنين به وطبيعتهم البشرية وتفاعلهم العملي والوجداني مع هذا الإيمان، مع التركيز وبشكل أساس على التربية الدينية التي تلقوها في صغرهم، وهي نشاط بشري محض يحتمل الصواب والخطأ، وربما يعتريه النقص والانحراف والتشويه في كثير من الأحيان.
الزج بالدين في السياسة
كثيرا ما تؤدي التربية غير الصحيحة إلى تكوين شعور وهمي لدى فئة واسعة من المتدينين بأهميتهم المفرطة، فيرون أنفسهم أحيانا أفضل من الآخرين وأعلى منهم درجة والمفوضين بسلطة مطلقة وأصحاب الحقيقة التي يظنون أنها واحدة لا متعددة ويعتبرون أن الآخرين على باطل وبهتان. وبذلك يبدأ الاختلاف الذي ربما يكون في بدايته داخليا وشخصيا فقط، ولكنه في الغالب لا يستمر كذلك.
ويصبح الأمر أشد خطورة عند الزج بالدين في اللعبة السياسية، ما يجعل التفرقة أوسع واحتمال اندلاع العنف أكبر، فيتحول الدين الذي جاء لرحمة الإنسان وسيلة لإيذائه.
ونقف في تاريخ الصراع السياسي على أحد الأمثلة المهمة على ذلك، حين اشتد التنافس بين الصفويين والعثمانيين، فتحولوا إلى اعتناق المذهب الشيعي الإثنا عشري لتكون ذرائع القتال أقوى في مواجهة الدولة العثمانية السنية، والتي بدورها استفادت أيضا من هذا التحول العقائدي، لتنقل صراعها مع الصفويين من تنافس على السلطة إلى “جهاد في سبيل الله”.
وما أود تناوله هنا هو تجلي الاستخدام السياسي للدين الإسلامي في الوقت الراهن والمعروف بـ”الإسلام السياسي”، وذلك في مشروعين خطيرين أصبحا يهددان استقرار منطقتنا بالدرجة الأولى، رغم أن ارتداداتهما لا تقف عند حدودنا العربية فحسب، بل تتجاوزها إسلاميا وعالميا أيضا.
وتتزعم إيران أحد هذين المشروعين، وهي التي لم تخف يوما طموحاتها الإمبراطورية، لا قبل الثورة الإسلامية سنة 1979 ولا بعدها، مدعية تأسيس أمة إسلامية عالمية تدافع عن المستضعفين في كل مكان في العالم، وتعتبر الشيعة في كل مكان، وبغض النظر عن اختلافاتهم داخل المذهب، من هذه الفئات المستضعفة. ولذلك فإن تحركات إيران خارج حدودها مدفوعة بواجب حماية المذهب الشيعي، فتتدخل في شؤون الدول الأخرى وتضر بوحدتها الوطنية وتكرس الانقسام المجتمعي بين أبنائها، والأمثلة على ذلك كثيرة، سواء في أفغانستان أو الكويت أو البحرين أو السعودية أو اليمن أو لبنان والعراق.. إلخ.
وخلف هذه الأيديولوجيا الدينية – السياسية القائمة على مبدأ “تصدير الثورة” تتمكن إيران من زيادة نفوذها في الدول العربية والإسلامية وتمهد لتحقيق مصالحها الاقتصادية والسياسية والعسكرية.
ولكن ما هي الوسائل اللازمة لتحقيق ذلك، وما الذي يتوجب على إيران فعله للنفاذ إلى تلك الدول؟
إن التكتيك الذي تستخدمه إيران لتوظيف الدين في خدمة أهدافها هو موضوع دراسة صادرة عن مؤسسة سوفان، وهي شركة استخبارات
خاصة مقرها نيويورك، لشرح ما يوصف “بالكاتالوج الإيراني”، جاء فيها أن إيران تتبع على مدار أربعين سنة أسلوبا واضحا جدا، إذ تختار إحدى الدول المأزومة المضطربة والتي تعاني حروبا أهلية أو أي صراعات أخرى، ثم تنتقي جماعة فيها مستعدة لإقامة روابط مع طهران، ولا بد أن تكون شيعية المذهب، فتسلحها وتقويها حتى تصبح فصيلا عسكريا قادرا على التأثير ولا يلبث هذا الفصيل أن يتحول إلى حزب سياسي بدعم مالي وعسكري كبيرين، ويبدأ بالفوز بمقاعد برلمانية ثم حكومية، فتصبح إيران من خلاله صاحبة قرار في الدولة المستهدفة. وهكذا يتمكن الإيرانيون من اختطاف قرار الدولة المستقلة عبر حزب الله في لبنان، وهو ما يحاولون استنساخه في العراق واليمن أيضا.
استطاعت إيران من خلال استغلال الدين والميليشيات التابعة لها أن تزعزع استقرار مناطق عدة، حتى أنها باتت تهدد السلم العالمي ككل وتوفر للغرب مسوغات إطلاق اتهاماته بما يسمى بالإرهاب الذي يزكي نزعة الإسلاموفوبيا في حلقات من العنف والعنف المضاد.
وعلى المقلب الآخر، مثّل الإخوان المسلمون، كتنظيم سياسي إسلامي عالمي، النموذج السني الأكثر وضوحا للاستخدام السياسي للإسلام. استطاع التنظيم عبر تاريخه الأطول نسبيا بالمقارنة مع أيديولوجيا “الثورة الإسلامية الإيرانية” أن يؤسس شبكة سياسية عابرة للدول والقوميات وأن يحظى بدعم سلطات دول عربية وأجنبية، معتمدا النهج ذاته القائم على اتخاذ الدين وسيلة للوصول للسلطة.
وكان الشرخ الأهم الذي أصاب أيديولوجيا الإخوان المسلمين منذ توسيع نشاطهم السياسي إقليميا، ثم دوليا، انتهاجهم الخط البراغماتي غير المنضبط في إقامة تحالفاتهم وعقد اتفاقياتهم عبر العالم، كما أدى سعيهم المحموم للانتشار الأفقي إلى افتقارهم لروح الوحدة والهوية الثابتة على العكس تماما من أيديولوجيا الثورة الإسلامية الإيرانية. وساهم ذلك كله في عقد تحالفات متناقضة مع بعضها البعض كانت قصيرة أحيانا ما أفقدها القدرة على تحقيق أهداف إستراتيجية بعيدة المدى، كما اتسمت بالكيل بمكيالين وبغموض موقفها حيال الكثير من القضايا التي شغلت المنطقة العربية في العقد الأخير، وأهمها الإرهاب والجماعات الإرهابية المسلحة، كالقاعدة وداعش والنصرة وغيرها. وترافق ذلك كله مع ما يمكن تسميته بالنوايا المضمرة التي جعلت من الإخوان خطرا محتملا على سياسات دول المنطقة وأمن شعوبها.
ومن ناحية أخرى، تقوم أيديولوجيا الإسلام السياسي الذي يمثله الإخوان المسلمون وجماعات أخرى أقل شأنا على نشر نهج تكفيري (سواء
ضد الأنظمة السياسية أو الأشخاص) ليس معلنا صراحة كما هو الحال لدى الفصائل الإسلامية الأخرى ذات التوجه المسلح، لكنه متداول ويجري العمل على أساسه على الأرض وعبر الفعاليات الاجتماعية وأنظمة المساعدات والقنوات الإعلامية المتوفرة في أكثر من مكان.
لذلك ونظرا لادعاء هذه الجماعات أنها عكس ما هي عليه فعلا، لم يكن غريبا أن الإدارات الأميركية السابقة، ولاسيما الديمقراطية منها، اعتبرت أن الإخوان المسلمين يمكن أن يكونوا بديلا جيدا عن دول رأت فيها واشنطن تهديدا لمصالحها إبان ما سُمي بـ”الربيع العربي” لأسباب عدة.
خدمة المصالح الضيقة
ورأى الأميركيون أن الإخوان المسلمين هم الأقرب للحفاظ على مصالحهم، فالجماعة على عكس القاعدة لا تؤمن بالخلافة ولا الأممية وهي مستعدة للعمل كحزب سياسي داخل الدولة القومية، ولا تمانع في التعايش مع إسرائيل من دون حروب. وجاء هذا التوصيف في إطار مراجعة أجرتها الولايات المتحدة للجماعات الإسلامية كما أورد ويلسون سكوت في تقرير له نشرته صحيفة “واشنطن بوست” في 2010 قال فيه “إن الإدارة الأميركية أجرت تقييما للتيارات الإسلامية المختلفة في العالم الإسلامي، باعتبار أن في العالم العربي هناك تيارات كلها تحمل كلمة ‘إسلامية’ ولكن هناك فروقات كبيرة جدا بينها، وبالتالي نحن بحاجة إلى معرفة أي من التيارات التي يجب دعمها”.
وعبرت هيلاري كلينتون لاحقا في مذكراتها “خيارات صعبة” عن دهشتها من الرئيس المصري محمد مرسي، وكيف أثبت لها في لقائهما الأول أنه حريص على الاستمرار في تنفيذ اتفاقية كامب ديفيد، وسعى لإثبات مرونته مع الولايات المتحدة التي بدت عكس خطاباته الشعبوية كشعار “على القدس رايحين شهداء بالملايين”. وعلى العموم، إن بداية العلاقات الإسلامية الأميركية تعود لعشرات السنوات، ففي سنة 1953 استقبل الرئيس الأسبق دوايت إيزنهاور رؤساء جماعات إسلامية مختلفة تقدمها الإخوان وتحديدا القيادي سعيد رمضان وقريب مؤسسها حسن البنا، وكان هدف تلك الزيارة التأكد من أن هذه القيادات ستدعم الولايات المتحدة ضد الاتحاد السوفييتي.
ومع تراجع مستوى القبول بالإخوان المسلمين في دول عربية عدة وانعدام الحماس الأميركي لهم، وجدوا في تركيا الحالية ملاذا وحليفا قديما جديدا في الوقت ذاته. فتركيا لا تختلف كثيرا عن إيران الشيعية على أكثر من صعيد، لكن لدى الأولى طموحات أكبر ومجالات أوسع، وحتى وإن كانت إيران تتمدد في العالم الإسلامي، لكنها مقيدة بحكم المذهب ومحصورة عموما في المناطق ذات الغالبية الشيعية فقط. بيد أن المذهب لا يعيق طموحات تركيا التوسعية الرامية إلى استعادة النفوذ العثماني القديم. وكي تحقق هذا الهدف لا بد لها من طريقة تتمثل في دعم التيارات الإسلامية في كل أنحاء العالم وتحديدا جماعة الإخوان المسلمين، فالرابط الديني هو الأكثر تأثيرا بالنسبة إلى تركيا، وهو القادر على منحها قناة تواصل هائلة ومتشعبة لتحقيق نفوذها في العالم الإسلامي كله وليس العربي فقط. وحتى وإن لم يصل الإخوان الذين تدعمهم أنقرة إلى السلطة، فمن الممكن أن يكونوا على الأقل مخلب قط مفيد لها مثلما يفعلون في شمال سوريا، أو كورقة ضغط تستعملها عند الضرورة، وهو وضع ينطبق على موقفها تجاه مصر وذلك من خلال استضافة جماعة الإخوان المسلمين بشقها المصري واحتضانها في تركيا.
وعلى العموم، فإن أيديولوجيا “الحركات الإسلامية” ومهما حاولت الحفاظ على عناصر التماسك والحداثة تبقى مهددة بالاضمحلال والفشل، ما يقف عائقا بينها وبين القدرة على الوصول للسلطة أحيانا أو الحفاظ عليها في حال استطاعت القبض على مقاليدها في أحيان أخرى. ويعود ذلك إلى هشاشة التجربة السياسية لهذه الحركات، وضعفها واتكائها على قوى وعناصر هزيلة لا تحمل برامج علمية أو تعتمد على فلسفات ماضویة أو تبريرات دینیة لا علاقة مباشرة لها بخطاب الواقع والمطالب اليومية للإنسان العادي، إلى جانب ما تنطوي عليه هذه الأيديولوجيات من تضخيم الاهتمام بالماورائیات على حساب عمليات البناء الفعلية التي يتوق إليها الإنسان العادي.
إن الإسلام هو الضحية الأكبر للتناحر بين خلافة السلطان وولاية الفقيه، وبما أن العمل جار على توظيفه لخدمة المصالح السياسية الضيقة ولم يتم الفصل بين الزمني والروحي والتمييز بين “ما لقيصر لقيصر وما لله لله” ستبقى تهمة الإرهاب تلاحق الإسلام الذي هو دين رحمة ومحبة وتعايش وسلام.