الرئيسية / مقالات رأي / حذار المواقف الأوروبية

حذار المواقف الأوروبية

بقلم: راغدة درغام – النهار العربي

الشرق اليوم- عزْمُ الرئيس جو بايدن على محو سلفه دونالد ترامب وإلغاء قراراته و”أميركا أولاً” معه يصطدم بخطورة انزلاق الإدارة الجديدة إلى مصيدةٍ نصبتها لنفسها وللمصالح الأميركية على الصعيد العالمي. تشوّق إدارة بايدن إلى فتح صفحة تنسيق وتعاونٍ وشراكة مع الدول الأوروبية له حسناته، لكن إيكال ملفات النزاعات الدولية الى فرنسا أو ألمانيا أو غيرهما يورّط الولايات المتحدة وينتزع منها صلاحية القرار والقيادة.

التحدّي الأكبر الذي يواجهه الرئيس الأميركي الجديد يكمن في الانطباع عنه بأنه ضعيف الشخصية، غير قادر على تشكيل إدارة لها هويَّة مستقلّة عن إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما، يتخبّط في طيّات وعوده وتوعّداته، بالذات نحو الجمهورية الإسلامية الإيرانية.

الأسبوع المقبل سيقع الرئيس بايدن في المصيدة الإيرانية مع اقتراب موعد 23 شباط (فبراير) الذي أقرّه البرلمان الإيراني وتبنته القيادات الإيرانية موعداً حاسماً لمصير الاتفاقية النووية JCPOA والعلاقات الأميركية – الإيرانية. طهران ليست خائفة من تداعيات تصعيدها في العراق واليمن ولبنان وسوريا وفي الملف النووي. إنها تراهن على وهنٍ بنيوي في شخصية جو بايدن وفي طبيعة فريقه المعني بالملف الإيراني وهي لا تأبه بلغة “لن نتسامح” مع التجاوزات الإيرانية، بما فيها التي تهدّد أمن الحلفاء والأصدقاء للولايات المتحدة، لأنها لا تأخذ إدارة بايدن على محمل الجدّ، بل تعتقد أنها سترتجف وتتراجع بمساعدة الدول الأوروبية المرعوبة من التهديدات الإيرانية. ثم هناك روسيا والصين في الحسابات الإيرانية، إذ إن كِلاهما جاهز لاستغلال عزم بايدن على الطلاق التام مع سياسات ترامب، وبالتالي لن تخضعا لعقوبات أميركية إذا استأنفتا بيع السلاح لإيران أو استيراد نفطها. لذلك، أن تمزيق جو بايدن لسياسات دونالد ترامب كرهاً به أو انتقاماً منه إنما يحمل في طيّاته تعريض الأمن القومي الأميركي والأمن الإقليمي في الشرق الأوسط لمخاطر جديّة.

الرسائل التي تبعثها القيادات الإيرانية الممتدّة من الحاكم الفعلي مُرشد الجمهورية علي خامنئي و”الحرس الثوري” القائم على صنع السياسات الإيرانية الخارجية الى الرئيس الشكلي حسن روحاني ووزير الخارجية محمد جواد ظريف، هي رسائل إنذار وتهديد لواشنطن والعواصم الأوروبية. فحوى هذه الرسائل، كما نقلتها مصادر مقرّبة من صنّاع القرار في طهران هو التالي:

إن الجمهورية الإسلامية الإيرانية جاهزة لـ”تحطيم الزجاج” فوق الرؤوس ولـ”إغلاق الأبواب نهائياً” في المسألة النووية بحيث لن تكون هناك عودة الى الاتفاقية النووية. وهذا في رأي القيادات الإيرانية سيُرعب الأوروبيين ويدفعهم الى التخاذل مجدّداً – كما فعلوا عند التفاوض على الاتفاقية النووية برضُوخهم للإملاءات الإيرانية ولرفض طهران قطعاً السماح ببحث سياساتها الإقليمية عند صوغ الاتفاقية النووية.

هكذا، كانت الدول الأوروبية الثلاث، بريطانيا وألمانيا وفرنسا، شريكة لإدارة أوباما في تعمّد غض النظر عن السلوك الإيراني الإقليمي. هكذا كانت هذه الدول الغربية الأربع شريكة في مجازر سوريا، بل إنها مكّنت “الحرس الثوري” من تنفيذ السياسات الإيرانية التخريبية في العراق ولبنان واليمن وسوريا بتمويل غربي عبر رفع العقوبات والمباركة الصامتة لانتهاكات إيران للسيادة في الدول العربية وتوسّعها في الجغرافيا العربية. كان ذلك قراراً مدروساً لم يأتِ سهواً اتخذته إدارة أوباما حين كان جو بايدن نائباً للرئيس وتبنّته بريطانيا وفرنسا وألمانيا بكل إدراكٍ ووعي للعواقب بذريعة أن الملف النووي أهم وأن الاتفاقية النووية مع طهران تستحق هذا الثمن على أساس أنه ليس هناك أي خيار آخر.

الاستراتيجية الإيرانية تعتمد اليوم مجدّداً على الوهن الأميركي والرُعب الأوروبي، لذلك رفعت إيران السقف ثقة منها بأن أوروبا ستكون مفتاح التراجع الأميركي عن الإصرار على تنفيذ طهران التزاماتها بموجب الاتفاقية النووية كشرط وخطوة أولى نحو رفع العقوبات- فيما طهران تصرّ على البدء برفع العقوبات ثم إحياء الاتفاقية النووية. طهران تدفع الدول الأوروبية الى الضغط على إدارة بايدن لكنها أيضاً تستغلّ رعبها كي تقوم بإجراءات ملموسة تتمثّل برفع عقوبات أوروبية على إيران وبتقديم حوافز ماليّة ترغيباً لطهران في التعاون نووياً.

في غياب الضغوط العربية الضرورية على الدول الأوروبية، ستأتي المفاجأة الأوروبية لتصعق الدول العربية ما لم تستدرك العواصم العربية المعنيّة وتبادر الى احتواء الضرر الآتي من أوروبا. فهذه دول سبق وسهّلت الأجندة الإيرانية الإقليمية بكامل وعيها بكلفة إنسانية غالية في سوريا وبتحطيم للسيادة في العراق ولبنان. انها على وشك تكرار ما فعلته عام 2015 لدى التفاوض على الاتفاقية النووية مع إيران بدماء وسيادة عربية مهما أتت تصريحات المسؤولين الأوروبيين لتوحي بعكس ذلك. فحذار المواقف الأوروبية.

البيانات الأوروبية والأميركية التي تُعبّر عن القلق من التصعيد الإيراني – من دون ذكره صراحة – عبر الحوثيين في الهجوم على مطار أبها في السعودية أو عبر استهداف مطار أربيل، إنما تعكس واقع الضعف البنيوي في الخيارات الأوروبية والأميركية. خطورة التحدّث بلغة “لن نتسامح” التي ينطق بها وزراء خارجية هذه الدول تكمن في اعتقاد طهران أن هذا الكلام فارغ. هكذا تفقد هذه اللغة قيمتها، وتذكّر ببيانات منصب الأمين العام للأمم المتحدة التي تكرّر التعبير عن القلق. تكرار واشنطن بالذات لغة “لن نتسامح” مع التجاوزات الإيرانية والهجمات الحوثية من دون إجراءات بمستوى التهديد والتوعّد إنما يسلب إدارة بايدن الصدقيّة وكذلك أدوات التأثير والنفوذ التي تجرّد نفسها منها برغبتها انطلاقاً من مبدأ طلاقها وكرهها وانتقامها من سياسات ترامب مهما كانت واقعيّة وبراغماتية وفي المصلحة الأميركية والإقليمية.

المحنكون في القيادات الإيرانية يتحدّثون الآن بلغة “خيبة الأمل” بالرئيس جو بايدن وفريقه. يقولون إنهم توقّعوا من بايدن أن يتحرّك بصورة أسرع في الملف النووي وهم يتهمون فريقه بأنه لم يتخذ الخطوات الجدّيّة التي وعد بها. يزعمون أن فريق بايدن “خان” وعوده وأنه “عَرَض رزمة الجزر” في معادلة العصا والجزرة “ثم سحبها” بحسب ما نقلته مصادر موثوقة عن التفكير في صفوف “الحرس الثوري”.

أدوات الضغوط أو “العصا” الإيرانية على الولايات المتحدة والدول الأوروبية تشمل استراتيجية التخويف من الانتخابات الإيرانية ومن السيطرة الكاملة لـ”الحرس الثوري” على كامل إيران بصورة تامة وعلنيّة ومن دون ورقة التين المتمثّلة بما يسمى المعتدلين على نسق روحاني وظريف.

بين أسباب عدم قلق طهران من ردود الفعل الإسرائيلية تفاهمات إيرانية – إسرائيلية دخلت روسيا على خط تسهيلها وتوطيدها، ليس فقط في شأن سوريا، وإنما بصورة أوسع. الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مهتم شخصياً بملف هذه التفاهمات التي يحيطها الكرملين بكثير من السريّة حرصاً عليها. فهذا ملف جديد ومهم للدبلوماسية الروسية نظراً الى الدور الجديد الذي يمكّنها منه كلاعب في الشرق الأوسط، وكذلك نظراً الى حساسية ما يحدث في الساحة السورية الفائقة الأهمية لروسيا. فهناك باتت عملية “استانا” التي تضم تركيا وإيران وروسيا “مجرد ملصق على الحائط” بحسب تعبير خبير روسي في هذا الملف، إذ تحوّلت العملية “حلقة مستديرة بلا قرارات ذات جدوى وليس هناك أي احتمال لإعادة إحيائها”. وفي سوريا، يبرز دور إسرائيل وإيران معاً، لذلك تتبنّى موسكو رعاية التفاهمات ولعب دور “الوسيط” بين إيران وإسرائيل لتهدئة الأمور وتعميق التفاهمات الإستراتيجية.

طهران تراهن على تكبيل أيدي إسرائيل بسبب الانتخابات والانقسامات الداخلية كما بسبب صعوبة المغامرة العسكرية الإسرائيلية بلا الضوء الأخضر الأميركي الذي تحجبه إدارة بايدن عنها تحت أي ظرف كان، أقلّه في هذا المنعطف. لذلك، لا تخشى إيران من ردود الفعل الإسرائيلية.

مستوى ثقة القيادات الإيرانية بنفسها وبجدوى سياساتها التصعيدية عائد الى رهانها على الوهن الغربي بالدرجة الأولى، لكنه أيضاً يأخذ في الحساب أن تمزيق الاتفاقية النووية قد يحرّرها، لا سيّما أن جهات إيرانية متشدّدة تدفع الى ذلك. ثم أن انهيار المفاوضات، في اعتقادها، سيطلق أيدي الصين وروسيا نفطياً وفي صفقات أسلحة تحتاجها وبسرعة.

هذا الأسبوع لن يكون بالضرورة مصيريّاً، لكن أخطاء كبيرة تتربّص في الأفق من بينها خطأ التوعّد والتراجع تقاعساً، وخطأ الرضوخ مجدّداً للإملاءات الإيرانية.

شاهد أيضاً

مع ترمب… هل العالم أكثر استقراراً؟

العربية- محمد الرميحي الشرق اليوم– الكثير من التحليل السياسي يرى أن السيد دونالد ترمب قد …