بقلم: عباس علي – صحيفة المدى
الشرق اليوم– عندما نستعيد الأيام الأولى لانتفاضة تشرين ، فما زلنا نؤمن بحقيقة واحدة هي أن الثورة ولدت من رحم الشخصية العراقية التي ترفض كل أشكال المهادنة والمساومة والقبول بالأمر الواقع، مهما كانت التضحيات ومهما كان الثمن غالياً فهو ليس أغلى من العراق ومستقبله، ومهما حاول المضللون من النيل من الثورة ومن وقودها الدافع ومحورها الفاعل جيل التمرد والتطور والحرية، فلن ينالوا إلا من جرفهم ويحطموا أصنامهم بأيديهم بعد أن كشفت الثورة كل الخنادق الأصيلة والمزيفة والواهنة والصامدة،
الثورة اليوم أقوى من كل وقت مضى وأصبح الشعب قادراً على أن يجعل من السلطة الغاشمة والخارجة عن إرادته مثل الذي يناطح السماء لعلها تسقط بيديه، كل ذلك لم يكن من صنع أحد ولا إرادة أحد غير دماء الشباب الذين خرجوا وهم يحلمون بغد مشرق يعيد الكرامة ويبني مجداً عراقياً خالصاً يعبر عن روح أمة العراق وما يستحق من مجد ورفعة ومستقبل مكفول لشعبه الذي لم يبخل يوماً أن يكون عضواً حضارياً إنسانياً في عالم البشرية والوجود.
في هذا الوقت المتجدّد لا بد من مراجعة نقدية لما جرى بعد الانتفاضة التي حاول البعض إجهاضها ..سرقت جائحة الكورونا من العراق أكثر من عام من التعطيل وكانت فرصة للنظام وطبقته الحاكمة أن تلتقط أنفاسها مرة أخرى، في الوقت الذي لم يستغل شباب الثورة هذا التوقف الجبري في مسيرتهم لإعادة تقييم العمل الثوري ومحاولة قراءة ورسم طريق للقادم من الأيام وفق معطيات الأرض والواقع بعيداً عن رومانسيات الثورة والنضال، كما لم ينجح شباب الثورة ونتيجة للكثير من التدخلات والعوامل الذاتية والموضوعية أن يؤطروا نضالهم الذي هو صورة حقيقية وأصيلة لنضال الشعب العراقي في قالب تنظيمي، أو على الأقل ترسيخ ثوابت ومنطلقات للعمل القادم تستند في جوهرها على قضية التغيير التام والشامل والكامل للمنظومة السياسية الحالية أو محاولة طرح المشروع البديل، مما سهل على الكثير من أحزاب السلطة التسلل إلى صفوفهم وإنشاء مجموعات شبابية تدعي انتمائها للثورة علناً وهي تعمل كحصان طروادة في الخفاء لضرب ثورة تشرين في أقوى معاقلها.
كما كان على شباب الثورة والأصوات العالية التي بقيت على طريقها دون أن تهادن السلطة أو تحرف عن الطريق الذي رسمه الشهداء والمضحون لها، أن يلتفوا حول راية واحدة لتشكيل نواة مولدة وقابلة لتكون ضمير الثورة وصوتها وطرح مشروعها الوطني القابل للنضج من خلال الحوار والنقاش المخلص، كونهم الأقدر والأجدر على فعل ذلك دون أن تغريهم السلطة وأحزابها بمغريات الفساد وتكشف معدنهم المنافق الوصولي، كما أن التهاون في طرح ثقافة المواطنة ونبذ التعصب والطائفية والمناطقية من تفكير الشارع المنتفض لم يكن بمستوى حلم الثورة في الخلاص، وبقيت شعارات الساحات متفرقة ومناطقية محلية دون أن يكون هناك صوت وطني مركزي واحد يطرح في كل الساحات وبصوت كل الشباب، التشكيك أحياناً والتخوين من البعض للبعض دون وجود حقائق على الأرض بقيت سمة واضحة في الكثير من الشخصيات التي ركبت الموجة مدفوعة بمصالح خارجية لا تمت للانتفاضة ولا إلى جمهورها بصلة، ولكنها وللدعم الذي تحصل عليه إعلامياً ومادياً تمكنت من تشتيت الصوت الواحد الذي أنطلق عشية الأول من تشرين موحداً وواحداً وغاب شعار “نريد وطن” في أغلب الخطاب السياسي لهم ليحل محله ما هو أدنى من ذلك بكثير.
هناك من يحاول أن يرسم نهاية للثورة وهناك من باشر منذ اليوم الأول لانطلاقتها للتشكيك فيها وفي أهدافها وأن أجندتها ليست عراقية ووو الخ من الأقاويل التي لم تفلح كثيراً في وأد الثورة وواصلت مسيرتها بدم شهدائها وكم الضحايا المتزايد يومياً، كما أن التأييد الشعبي الكبير من الكثير من المفصليات المهمة في النظام الاجتماعي العراقي ساهمت في ترسخ نهجها بالرغم من بعض الأخطاء المتوقعة في جزء من مسيرتها وجزء من نشاطها، وهذا الأمر لا يشكل مثلبة ولا يحط من قدرها لضخامة وجودها وقوته التأثيرية على الواقع السياسي والاجتماعي، وهذا أيضاً زاد من حنق السلطة ومكوناتها وأعتبرت كل ذلك أستهدافاً حقيقياً لوجودها مما يُصعّب عليها المواجهة الحازمة والحتمية، فقررت العمل واللعب على عامل الزمن والمتغيرات التي قد تحدث نتيجة طول الفترة وتفكك الإرادة الشبابية بما تفعله من إحداث تخويف أو ترهيب أو تسويف للواقع، وهنا أيضاً لم تنجح بدليل أن الثورة دخلت عامها الثاني ولم تتراجع عن طريقها بالرغم من كل ما فعلته قوى الفساد والمحاصصة والطائفية.
لقد رسمت أيام تشرين صورة لمستقبل العراق الجديد الذي أطرته دماء شهدائه وضحايا العنف المفرط من قبل قوى السلطة وأحزابها المتحكمة، فعلى شباب الثورة أن يجسدوا هذه الصورة في مخيالهم وواقعاً دون أن يلتفتوا إلى ما يُثار حولها وعليها، وخاصة من أطراف إقليمية ودولية تحاول توظيف صدامها مع النظام المتهالك لجني مكاسب سياسية لها دون مراعاة لحقيقة أن العراقيين هم من يقرر المصير وهم وحدهم أصحاب المشروعية في تقرير مستقبلهم ووجودهم، كما أن التدخلات الخارجية والداخلية لم ولن تتوقف طالما أنها تعارض مشروع الثورة وترى فيه مساساً بمصالحها، هذا الوعي المتقدم هو من يحصن الثورة ويحميها من تأثيرات مهمة وقد تكون مضرة في أحيان كثيرة، لكن يبقى ذلك كله في عهدة النخبة الواعية المستنيرة التي تعرف كيف تواجه وكيف تقاوم كل ما يسيء للعراق وشعبه.
نقلاً عن العربية