بقلم: حسن العطار – صحيفة إيلاف
الشرق اليوم- من المتعارف عليه أن الديمقراطية تعني ثلاثة أمور محددة: أنها العملية الانتخابية التي يفترض أن تتيح تمثيلا لشعب من الشعوب أو لقطاعات معينة من هذا الشعب أو ذاك. وهذه الانتخابات تختصر كثافة بشرية واسعة في عدد قليل من الأشخاص المنتخبين لكي يتمكنوا من إبداء أراءهم ووجهات نظرهم لمصلحة من انتخبوهم.
أن الديمقراطية هي حال قبول بالغير أيا يكونوا وكيف يكونوا، قبول بوجود الغير في الحيز الجغرافي والموقع الاجتماعي وبالدور الاجتماعي المنوط بهم، دون تفريق أو تحيز بسبب اللون أو الثقافة أو الفئة التي ينتمون اليها سواء سياسية أو دينية أو اجتماعية، وهو ما يشار اليه بالتعددية.
أن الديمقراطية هي ذلك الإلحاح على ما للإنسان من حقوق يجب ان تعطى له، ومن حقه ممارستها والتمتع بها والتصرف بها دون مانع إلا موانع القانون السائد في المجتمع. وهذه الحقوق هي حقوق الوجود والعيش الكريم وتلبية متطلبات الذات وحاجاتها، والعمل والتعلم والتعليم والتعبير عن الرأي، والحرية في ممارسة كل هذه الحقوق التي تخص كل فرد في المجتمع، ولكل فرد أن يمارسها في حدود قناعته ووعيه وحسب مستواه، ومستوى المجتمع الذي يعيش فيه.
والديمقراطية في الغرب تجاوز عمرها المائتين وخمسون سنة، وتجذرت أصولها في تلك المجتمعات بفضل تطوير مفهوم الدولة المركزية التي قامت بدورها في الحلول محل البنى الصغيرة والضيقة في تلك المجتمعات من عائلة ممتدة أو قبيلة أو طائفة.
أما في الوطن العربي، ورغم ارتفاع صوت الديمقراطية على ألسنة أصحابها والداعين لها، فإن عمرها لا يكاد يتجاوز السبعين عاما. لهذا من غير المعقول ان تنجح في الحلول محل تراث عمره أكثر من عشرة قرون قائم على تركيبات عائلية وقبلية وطائفية ودينية وإثنية، بات راسخا في الذات الإنسانية العربية وواقعها الاجتماعي، ولم تتمكن الديمقراطية من اختراق ذلك الترسب الاجتماعي التاريخي المتكامل بشريا وجغرافيا على مدار قرون في المنطقة العربية الواسعة. لذا فإن اقصى ما قبل به المروجون والآخذون بها هو أنهم حولوها الى حاضنة للتركيبة الاجتماعية العربية القائمة على الحالة العائلية او النخبوية التي هي مركز الثقل في ذلك الترسب الاجتماعي الثابت منذ قرون.
إن الناخب او المقترع في أي بلد عربي يصوت للمرشح الذي اختارته الطائفة أو القبيلة أو النخبة. إنه يتوجه الى مركز الاقتراع بفكر جماعي واحد يكاد يكون عقلا جمعيا، وهذا العقل الجمعي هو الذي يستبد برأي الفرد الذي يقال عنه إنه يمارس حرية الاختيار في الانتخاب، لكنه في الواقع يمارس حرية تقع داخل حدود القبيلة أو الطائفة أو النخبة. وإذا كانت هناك فئات قليلة قد غادرت مواقع التأثر نتيجة التحصيل العلمي العالي والاختلاط بالمجتمعات الديمقراطية الغربية، فإن حجم هذه الفئات حسب الدراسات يتراوح بين ثلاثة أو خمسة في المائة من بلد عربي إلى آخر.
إن أزمة الديمقراطية في الوطن العربي هو بقاؤها محاصرة ومحصورة في فئة الآخذين بها والداعين إليها، وهذه الفئة بقيت محدودة بالرموز الاجتماعية والنخبوية من حكام وسياسيين وإعلاميين ومثقفين يدعون إليها نظريا، دون أن يمارسوها عمليا. كما أن أزمة الديمقراطية هي في تحولها أداة في يد دعاتها هؤلاء يتيح استمرار الترسب الاجتماعي القائم على الحالة العائلية والنخبوية، وتمكنهم من الاستمرار حيث هم في مواقع الفاعلية والتأثير إما في السلطة أو في إطار القوى المحيطة بها والداعمة لها.
ومن النتائج السلبية لهذه الممارسة الخاطئة للديمقراطية ظهور الفساد السياسي، كما أنها حولت مصالح الكل الاجتماعي في أكثر بلدان الوطن العربي إلى مصالح تمسك بها نخبة قليلة العدد. ويعتقد كثير من المفكرين أن الخروج من هذه الأزمة لن يتحقق إلا بتحييد الدولة، وإبعادها عن تأثير وسيطرة المصالح التي تمليها قوى الترسب الاجتماعي القائم على القبيلة أو الطائفة أو النخبة. إن تحييد الدولة يعني إخراجها من دائرة تجاذب المصالح لهذه الفئة القليلة، بحيث تبقى دولة الضمانات لكل المواطنين، فتقدم الخدمات لمن يستحقها وليس لمن تريده السياسة أكان مستحقا لها أو غير مستحق.