بقلم: حسن إسميك – صحيفة إيلاف
الشرق اليوم- كنت أتبنى في أغلب الأحيان موقف المدافع عن الفلسفة خلال الحوارات مع الأصدقاء الذين اعتادوا اتهامها بالتعقيد وكثرة التنظير، لكنني لم أجد يوماً في قراءاتي ما يمكنه أن يدعم وجهة نظري التي تؤكد على أن الفلسفة قادرة على مساعدتنا في حياتنا اليومية، ولا تقتصر على مجرد فرضيات وجودية معقدة لفهم الكون والمجتمع والإنسان. لكن عندما وقع بين يدي كتاب آلان دي بوتون للمرة الأولى، أدهشني منهجه البحثي والنقدي المتماسك، إلى جانب عناوينه الهامة التي تلامس أي فرد في المجتمع، فتقدم له طرقاً فلسفية بنّاءة هدفها تحسين رؤيته لحياته، كما تقترح حلولاً مهمة لمشاكل الحياة النفسية والاجتماعية والاقتصادية، مدعومة بأمثلة ومراجع رائدة في الفلسفة.
في كتابه “عزاءات الفلسفة” (صدر بالانكليزية في 2000 وترجمه للعربية يزن الحاج العام 2016)، يمضي دي بوتون كعادته بالقارئ في رحلة عبر الفضاءات الفكرية لستة من أيقونات الفلسفة التي عرفتها البشرية. ويتمكّن بأسلوبه المُشوّق من إلقاء الضوء على إشكالات إنسانية، لا بد أن يعاني من أحدها على الأقل جميع أفراد المجتمع. والجدير بالذكر أنه يتناول جذر كل مشكلة، ويدعمها باقتباسات وتجارب حياتية مستقاة من أغلب الفلاسفة، الأمر الذي يضمن إحداث تأثير عميق على القارئ. هكذا حول دي بوتون كلاً من سقراط، أبيقور، سينيكا، مونتين، شوبنهاور، نيتشه، إلى عبِرة فلسفية من شأنها أن تعزينا عندما لا نجد مخرجاً من المعضلة الوجودية المؤلمة التي نقع فيها.
يستهل المؤلف كتابه بمناقشة موت سقراط بآرائه حول الحقيقة وعدم أخذه بما كان يقال عنها في أثينا. ويشير إلى أن الفلسفة منحت سقراط قناعات مكّنته من اكتساب ثقة مبنية على العقل حين كان يواجه بالرفض. ويستهل دي بوتون حديثه عن العزاء السقراطي هذا بالتنبيه إلى أننا نجد في أي مجتمع إنساني أفكاراً سائدة مهيمنة يعتنقها الأفراد وينقلونها إلى أولادهم واحفادهم بشكل ببغائي، وإذا حاول أحدنا رفض هذه الآراء أو حتى طرحها للنقاش، سيقابل باستنكار لا منطقي من قبل الآخرين قد يصل إلى حد العدائية الاجتماعية في بعض الأحيان. ولما كان من المخيف أن نسمع أن غالبية أعضاء المجتمع تعتبرنا مخطئين فإننا نميل عادة إلى التخلي عن موقفنا. لكن دي بوتون يدعونا هنا إلى المقاومة والتمسك برأينا هذا والاقتداء بمنهج سقراط الذي يُعدّ مثالاً إنسانياً مهماً لكيفية الاحتفاظ بالثقة بالنفس في مواجهة معارضة واسعة غير منطقية لأفكاره.
العزاء الفلسفي الثاني الذي نجده عند دي بوتون، يتصل بالقلق بشأن الافتقار إلى المال. وهنا يستعين بفلسفة أبيقور التي تؤكد على أهمية اللذة الحسية، يرى أبيقور أن الواجب الذي يقع على عاتق الفلسفة، هو مساعدتنا على تأويل حالات اليأس والرغبة الغامضة التي تعترينا. والفلسفة، برأيه، لن تكون ذات نفع إن لم تخلصنا من معاناة العقل.، فهو يلفت انتباهنا إلى وجوب إجراء محاكمة عقلانية لرغباتنا وفقاً لمنهج قريبٍ من ذاك الذي اعتمده سقراط في تقييم التعريفات الأخلاقية. فعندما نرهق أنفسنا في السعي للوصول إلى الشهرة أو السلطة أو حتى لاقتناء منزل مترف، يجب في البداية التأكد من أن الرغبة الأساسية التي نسعى إلى تحقيقها تتمثل في تملك هذه الأشياء. كما يقول إن حيازة الصداقة، والحرية، والتفكير من شأن تملكها أن تعود بالسعادة على أي كان. ويؤكد أنه لا يمكن نيل السعادة من دون هذه الممتلكات القيمة.
ثم ينتقل دي بوتون من القلق الوجودي إلى عالم الإحباط الذي ساد حياة سينيكا، مبيناً كيف تمكن هذا الفيلسوف من قبول المآسي التي واجهته كواقع يجب عليه التعامل معه. ففي الحقيقة ينتابنا شعور بالإحباط عندما تتعارض أمنياتنا مع الواقع القاسي، أو حين لا ننال جزاءً مناسباً على أداء نعتبره جيداً. لكن سينيكا يؤكد أن الحياة غير عادلة في الأصل، وبإمكان الفلسفة أن تجنبنا هذا الإحباط عندما توفّق بيننا وبين الواقع. وعلى رغم ما يتمخض عنه الإحباط من ردود أفعال نفسية قاسية، كالغضب والقلق والصدمة والإحساس بالظلم، فإن هذه المشاعر إنما تنشأ بسبب طريقة تفكير معينة، وإذا تمكنا من السيطرة عليها، استطعنا تحويل هذه الصعوبات إلى حوافز للتقدم والتغيير.
وهنا يأتي دور الفيلسوف الفرنسي مونتين، الذي يرى وبعدما غاص في بطون الكتب المتنوعة وقام برحلات إلى بلدان وثقافات شتى، أننا نحن البشر نعاني من إرباك ناجم عن امتلاك جسد وعقل متعارضين، معتبراً أن عقولنا وضعت بداخلنا كي تعذبنا. فالحيوان قادر على معرفة كيفية الاستمرار بحياته غريزياً من دون أن يقلقه شيء أو أن يشعر بعجز ما. بينما نميل نحن البشر إلى إنكار أننا نتعايش بشكل مضر ومهين مع أجزاء جسدنا، إذ تتحكم بنا شهواتنا الجنسية، وحاجتنا للطعام والشراب والتخلص من الفضلات، فتأتي عقولنا لتجعلنا نشعر بالضيق من هذا التحكم بدلاً من تقبله والعيش معه بهناء. وعليه حدد الفيلسوف الفرنسي معنى الحكمة التي يجب أن تساعدنا لنكون أكثر تصالحاً مع أجسادنا، ومع عادات المجتمعات الأخرى التي قد تبدو غريبةً عنّا. ويكمن جوهر حكمته في أنه لا ينبغي أن نطالب أنفسنا بما لا نقوى عليه. فالذكاء لا يتمثل بالأفكار واللغات المعقدة، إنما بمعرفة الوقائع والتعايش معها، والمضي على طريق السعادة بدلاً من الاستمرار بالشعور بالعجز.
أما فيما يتعلق بالمشاعر والانفعالات، فقد اتفق دي بوتون مع الفيلسوف شوبنهاور بالتأكيد على أهمية الأحاسيس الإنسانية وما يمكن أن ينجم عنها من انكسارات عاطفية تدمي القلب. فقد وجد الأخير عزاءً في الفلسفة لحالات الرفض التي قوبل بها خلال حياته، سواء من جانب امرأة أحبها، أو لدى رغبته بالعمل في مجال ما، أو من الطبقة الاجتماعية التي حاول أن ينتمي إليها. وخلُصَ إلى نتيجة مفادها أن سعادتنا العُظمى تكمن في أن نحظى بالاحترام، وأن أسعد إنسان هو من استطاع احترام نفسه بإخلاص رغم كل ما يمكن أن يتعرض له. كما أرجع هدف الحب إلى ذات لا واعية تسيطر على الذات الواعية فينا، أما العقل فاعتبره مجرد خادم لإرادة العيش التي تدفعنا للتناسل وإنتاج جيل جديد. هكذا بات يعتقد أننا يجب ألا نلوم أنفسنا على فشل علاقة حب، أو شعور بنقص ما في شخصيتنا، إذ إن إرادة العيش هي التي تقرر من نحب وننجب منها (أو له) طفلنا، وتبعدنا عن الأشخاص الذين لا يشكلون مصدراً محتملاً للنسل السليم. ورأى أن هذه القوة شديدة بما يكفي لاستمرار البشرية، الأمر الذي يحتم معاناتنا إذا تلاشت. واعتبر أنه عندما نتقبل المعاناة كأمر طبيعي سيخبو شعورنا السلبي تجاه أنفسنا. ومما سيساعدنا على ذلك، في رأيه، أننا نتميز عن الحيوانات بوصفنا نستمتع بالفن والموسيقى والأدب والفلسفة، وهي كلها كفيلة بمساعدتنا على فهم أنفسنا بشكل أفضل.
أما فريدريك نيتشه، فقد كان من الفلاسفة القلائل الذين ركزوا على الشعور بالبؤس. ويستعين دي بوتون بفلسفته من أجل العزاء لدى مواجهة المصاعب. ويرى نيتشه أن تجنّب الألم ليس انجازاً في حد ذاته، بل المهم هو تحديد دور الألم كعنصر طبيعي لابد منه لبلوغ أية غاية جيدة. ولذا لا يجب علينا الهروب من التحديات، إنما علينا حسب الفيلسوف الألماني الكبير أن نكون مهيئين للتصدي للتحديات وتجاوزها للوصول إلى الأهداف القيّمة.
يضم الكتاب مجموعة من المقترحات التي ينصح المؤلف باتباعها لتبني تفكير سليم. هكذا يرى دي بوتون أن منهج سقراط يفيد في التعاطي مع الأفكار السائدة، كما يساعد أسلوب المساءلة الذي طرحه أبيقور في تحديد غاياتنا. ولعل مقترحات مونتين، مناسبة لتعديل طريقة التعليم في المدارس والجامعات. فالمناهج الدراسية تركز حسب رأيه على التعليم وينقصها الحكمة مع أنها هي وحدها التي تساعدنا على تحديد القيمة الحقيقية لأي شيء عبر اختبار مدى نفعه وملاءمته لحياتنا.
ويمكن أن يكون هذا الكتاب القيّم، هادياً ومرشداً، يجعل كلاً منا فيلسوفاً بطريقته الخاصة، يركز على كيفية تكوين قناعتنا الخاصة كي لا نلوذ بالفرار من الوجود، ولا نستسلم في حالات الرفض أو العجز أو الفشل، فالواقع قاس إذا نظرنا إليه كعدوّ، ولكنه يمثل فرصة كبيرة لإثبات الذات إذا اعتبرناه قوة إيجابية في تفكيرنا، وبهذا تكون الفلسفة منهج حياة وطريقة في التفكير. وعليه فإن تحويل الصعوبات إلى حوافز في الحياة سيتكفل بتوفير القناعة والدافع للاستمرار وتحقيق الذات. وربما هذا ما قصده دي بوتون بقوله “لا يكون كل ما يشعرنا بالتحسن جيداً لنا بالضرورة، كما لا يكون كل ما يؤذينا سيئاً”.