بقلم: د. محمد السعيد إدريس – صحيفة “الخليج”
الشرق اليوم – على مدى الأيام الأربعة التي شهدت محاكمة الرئيس السابق دونالد ترامب، كان فريق المحامين المكلف بالدفاع عنه حريصاً على وصف هذه المحاكمة بأنها «مسرحية»، ضارباً عرض الحائط بكل ما حدث فى يوم الأربعاء الدامي (السادس من يناير / كانون الثاني 2021) من إرهاب وقتل ومطاردة، وجاء التصويت على قرار إدانة ترامب ليؤكد هذه الحقيقة المرة بأن المحاكمة لم تكن أكثر من مسرحية من جانب الطرفين: الديمقراطيون والجمهوريون، حيث لم يصوت على إدانة ترامب غير 57 عضواً من أعضاء مجلس الشيوخ، ورفض 43 عضواً، ولم يؤيد الإدانة من بين الأعضاء الجمهوريين الخمسين في المجلس غير سبعة أعضاء فقط، إلى جانب الأعضاء الديمقراطيين الخمسين، وكان المستهدف هو أن يدعم قرار الإدانة 17 عضواً على الأقل من الجمهوريين كي يتحقق شرط الثلثين المطلوب، أي 67 صوتاً على الأقل لتحقيق الإدانة.
وصف المحاكمة بأنها «مسرحية» يعتبر أحد حقائق المحاكمة فعلاً، فأعضاء فريق الدفاع تركوا القضية الأساسية التي هي الحقيقة الكبرى التي لا مهرب منها، أي أن ترامب طرف أصيل في جريمة الاعتداء على مبنى الكونجرس، على الأقل باعتباره «محرضاً» بتوافر الأدلة المادية، وهي الجريمة التي تعتبر اعتداء على الدستور وعلى القسم الذي أداه. وركزوا على الجانب الشكلي أي على حجة «عدم دستورية المحاكمة» انطلاقاً من أن ترامب لم يعد رئيساً حتى تتم المطالبة بعزله، وأنه بات خارج منصبه كرئيس. ولم يناقشوا الجريمة التي تستوجب الإدانة، وركزوا على عدم صحة الإجراءات التي وصفوها بعدم الدستورية، وزادوا على ذلك استنباط رأي آخر سعوا إلى ترويجه وهو أن الديمقراطيين يدركون عدم صحة المحاكمة لكنهم يواصلونها لأغراض انتقامية من شخص ترامب، ومحاصرة دوره المستقبلي.
هذا الهروب المخطط ما كان له أن يتم من دون انحياز أغلبية الأعضاء الجمهوريين في مجلس الشيوخ له، رغم ثقتهم بأنه يستحق الإدانة، على نحو ما كشف زعيم الأقلية الجمهورية في المجلس ميتش ماكونيل الذي صوّت لمصلحة تبرئة ترامب، رغم إشارته إلى أن «ترامب مسؤول عملياً وأخلاقياً عن أعمال العنف التي حدثت يوم السادس من يناير / كانون الثاني».
على الجانب الآخر، لا يمكن تبرئة الديمقراطيين من مسؤولية فشل الإدانة. فهم من البداية عاشوا وهم الإدانة الذي يشترط انحياز 17 عضواً جمهورياً إلى جانب الديمقراطيين الخمسين، وهذا الشرط يعلم الجميع أنه غير متوفر، ورغم ذلك واصلوا مشوار، أو «مسرحية» المحاكمة، لذلك بات جلياً التساؤل: لماذا ذهب الديمقراطيون إلى خيار المحاكمة وهم على يقين بأن نتيجتها خارجة عن إرادتهم؟
لكن السؤال الأهم هو: لماذا أفشل الديمقراطيون مشروع محاكمتهم لترامب بالإساءة المبكرة إليه؟ والقول علناً إن المحاكمة «تهدف إلى منع ترامب من الترشح للانتخابات الرئاسية المقبلة عام 2024»؟
الكشف عن هذا الهدف من المحاكمة لم يتسبب فقط بـ «الإساءة الأخلاقية للديمقراطيين» و«جعل محاكمتهم لترامب متهمة بعدم النزاهة»، بل إنه كشف حقيقتين أليمتين تحاصران الديمقراطيين؛ الحقيقة الأولى، هي تأكيد الخشية السياسية المستقبلية من شخص ترامب، والخوف من كونه يمكن قد يكون مرشحاً منافساً محتملاً في الانتخابات الرئاسية المقبلة أمام أي مرشح ديمقراطي، سواء كان الرئيس جو بايدن، أو أي مرشح ديمقراطي آخر.
أما الحقيقة الثانية، فهي وجود شعور قوي مستحكم بالديمقراطيين بأنه ليس لديهم المرشح القوي القادر على منافسة ترامب إذا قرر أن يخوض الانتخابات الرئاسية المقبلة.
قد يكون توصيف صحيفة «فايننشيال تايمز» لمحاكمة ترامب وتبرئته بأنها «تبرئة معيبة» أمراً حقيقياً،لكن هذا لن يقف حائلاً أمام الحقيقة الأهم التي تطارد الجميع، وهي أن دونالد ترامب ما زال رقماً صعباً، وأنه يقود التيار الأقوى داخل الحزب الجمهوري مدعوماً بـ74 مليون شخص صوتوا له، وأنه سيبدأ مرحلة جديدة من الصراع السياسي، سواء في مواجهة الجمهوريين المعارضين له والمستائين منه، أو في مواجهة الحزب الديمقراطي، ولعل في تعليقه على فشل إدانته ما يؤكد ذلك. فقد كان أول رد فعل له هو أن «حركتنا التاريخية والوطنية والجميلة لجعل الولايات المتحدة عظيمة مجدداً قد بدأت لتوها».
عودة ترامب ربما تكون أهم تداعيات محاكمته، وهي عودة تطرح كل مشاهد المستقبل الصعبة، وربما الكئيبة أمام الأمريكيين جميعاً، لسبب أساسي أنها تعيد تجدد مشهد الانقسام الذي يتهدد الجميع.