بقلم: حسن إسميك – المصري اليوم
الشرق اليوم – يذكرني بيت الشعر المعروف «ما راقبوكَ ولكن أنت منفعلٌ / يا محور الكونِ إنّ الكونَ مشغولُ» بجملة من المقولات التي نرددها دائماً بوعي أو من دون وعي على شاكلة أن الفتن التي حدثت بين الصحابة الأجلاء كانت نتيجة مؤامرة تزعمها عبدالله بن سبأ أو مؤامرة مجوسية، وأن حروبنا الأهلية وغير الأهلية على مر تاريخنا اندلعت بسبب مؤامرة صليبية أو صهيونية (لاحقا)، وأن تخلفنا الحضاري ناجم عن مؤامرة كونية.. إلخ.
واللافت أن عناوين بعض أبرز الكتب التي تتصدر أي معرض كتاب أو مكتبة تتصل غالباً بـ«المؤامرات الكونية» علينا أو على العالم، مثل «بروتوكولات حكماء صهيون» و«أحجار على رقعة الشطرنج» و«حكومة العالم الخفية». ورغم أن باحثين، من العرب وغيرهم، قد شككوا بمصداقية هذه المؤلفات إلا أنها بقيت تحتفظ بمواقعها البارزة في واجهات المكتبات بإصرار عجيب يشي بمدى رواج نظرية المؤامرة بيننا.
لقد سال كثير من الحبر حول مزاعم «نظرية المؤامرة» في شرقنا المتوسطي؛ إذ تغلغلت في بنية عقلنا الجمعي وأضعفت فعالية عمله، الأمر الذي ساهم مساهمة مباشرة في منعنا من إدراك الأسباب الكامنة وراء مآسينا وما نواجهه من أزمات وإخفاقات.
ولقيت هذه النظرية مزيداً من الرسوخ جرّاء انتشار الأيديولوجيات العقائدية، ومن مختلف التوجهات، التي اكتسحت الساحة السياسية العربية، وكان لها الدور الأكبر في تأجيج الإدعاءات المؤامراتية وذلك للتغطية على إخفاقها في تحقيق التنمية الشاملة سواء على صعيد التنظير السياسي أو من خلال ممارسة السلطة السياسة. هكذا أثبتت نظرية المؤامرة جدواها كأداة لتجييش الجماهير وحملها على الالتفاف حول السلطة من جهة، أو لتبرير فشل هذه السلطة من جهة أخرى.
تتمتع نظرية المؤامرة برواج لافت في المجتمعات في أوقات الهزائم والأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وهو أمر شائع على مر التاريخ. فالنازية والفاشية نشأتا وترعرعتا في ظل الأزمات التي شهدتها أوروبا بعد الحرب العالمية الأولى وخاصة في ألمانيا وإيطاليا، وحينها نجح هتلر وموسوليني في إثارة المشاعر وتثوير الشباب وحشدهم خلف شعارات شعبوية وعنصرية.
وعلى الرغم من انتشارها في مختلف بقاع العالم، فنظرية المؤامرة تلقى الترحيب على نطاق أوسع في الدول والمجتمعات المتخلفة، حيث يسعى الجميع إلى استغلالها في أوقات الصعاب كما لو كانت عصا سحرية قادرة على تبييض صفحتهم وتحصينهم ضد خصومهم. ولفرط الاستعانة به، بات الفكر التأمري جزءاً من نسيج حياتنا العربية، ذلك أنه يريحنا من عناء البحث عن أسباب الفشل، ويغنيا عن نقد الذات وتحمل المسؤولية!
في هذا السياق، كشفت دراسة لمعهد «إيفوب» أن 80% من الفرنسيين تقريباً يؤمنون بواحدة على الأقل من نظريات المؤامرة الرئيسية، لكن المنطقة العربية تسبق غيرها بأشواط لجهة تقبل لهذه النظريات التي تحظى بالقبول على مستوى واسع بين العرب، سواء كانوا أشخاصاً عاديين أو من النخب في مجتمعاتهم.
من جهته، يقول الباحث ماثيو جراي في كتابه «نظريات المؤامرة في العالم العربي» موضحاً إن «نظرية المؤامرة عبارة عن ظاهرة شائعة وشعبية، فالإيمان بنظريات المؤامرة هي ظاهرة مهمة لفهم السياسة العربية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا».
ومع ذلك، من الصعب تجاهل الدور الذي تلعبه نظرية المؤامرة في مخططات استراتيجية للدول الفاعلة في العالم سواء فيما يتعلق بالشأن المحلي أو الدولي، فهي بهذا المعنى عنصر أصيل في عالم السياسة الذي يقوم على المصالح وقانون الصراع. غير أن الفرق شاسع بين من يستغل هذه النظرية في إطار محاولته لتحقيق مصالحه انطلاقا من فهمه لقواعد اللعبة السياسية، وبين من تدفعه الحاجة إلى تغطية ضعفه وجهله إلى التلطي خلف مفاهيم يخترعها للهروب من المسؤولية، بحيث يرفع البلاء الذي أصابه إلى درجة القدر المحتوم الذي لا يمكن الفكاك منه وكأنه ضحية لاحول لها ولاقوه!
ويبدو لي أن الذي يدفع الناس للاعتقاد بوجود المؤامرة في كثير من الأحيان هو عدم اقتناعهم، أو عدم رغبتهم بالاقتناع، بالتفسيرات المعلنة للأحداث التي تؤثر في حياتهم. فعندما يغيب التحليل المنطقي لأسباب الهزائم والانكسارات والأزمات، يلجأ الناس إلى حياكة سيناريوهات في محاولة للكشف عن الجذور المفترضة لتطورات زجت بهم في غياهب الجحيم الذي يتلظون بناره، فيتملصون بذلك من المسؤولية ويعتبرون أن ما حدث كان أكبر من أن يستطيعوا مواجهته والحدّ من تداعياته.
عبرت عن هذه الفكرة بدقة كارين دوجلاس أستاذة علم النفس الاجتماعي في جامعة كنت البريطانية في دراسة لها، قائلة «قد يتوق الذين ينجذبون نحو نظريات المؤامرة، إلى الشعور بالأمن، لكنهم يحصلون في واقع الأمر على العكس تماماً. تزيد نظريات المؤامرة من الشعور بالعجز والإحباط، بدلاً من أن تُشعر المؤمنين بتحسن أوضاعهم».
والحق أننا أسرفنا في استخدام فرضيات نظرية المؤامرة، بحيث غدت شماعة نعلق عليها عجزنا في الميادين كافة وذلك باتهام الآخرين بالتآمر علينا دون أن نعي بأنه يتحتم على هؤلاء القيام بكل ما يخدم مصالحهم دون أي اعتبار لمصالحنا نحن.
إن الصراع والتنافس بين الحضارات والأمم هو القانون الذي يحكم الكون، وبالتالي من الطبيعي أن يشهد التاريخ البشري تضارباً في المصالح وتسابقاً بين أطراف مختلفة لتحقيق أهدافها على حساب جهات أخرى. يتطلب ذلك من مجتمعاتنا أن تعي سنن الكون وتدير الصراع في ضوء رؤية استراتيجية لتكون على مستوى التحدي بدلاً من البقاء خانعة على قارعة التاريخ وتوزيع الاتهامات على الرائح والغادي بالتآمر عليها. وهذا يعكس حالة البؤس الفكري والسياسي التي نعيشها بسبب تفاقم متلازمة جنون الشك والارتياب (البارانويا) التي تتمثل في «تفكير المريض الدائم بأنه مضطهد من قبل الآخرين وأنه دائما في خطر متلاحق ممن هم حوله، لهذا تجده دائم الارتياب والقلق والشك في الآخرين».
وأزعم أن الإيمان بنظرية المؤامرة لدى البحث عن أسباب المشاكل والأزمات التي تغصّ بها مجتمعاتنا قد يؤدي إلى شيوع نزعة الحنين إلى الماضي (النوستالجيا) والتغني بأمجادنا التليدة، وهو الأمر الذي روج للمزاعم التآمرية وجعلها مقبولة في مجتمعاتنا. ولعل عقد المقارنات بين ماضينا البعيد عندما كانت شمس الحضارة العربية والإسلامية الساطعة تضيء رقعة جغرافية مترامية الأطراف وبين أحوالنا الراهنة المتردية، هو ما أدى إلى وجود سلوك نفسي جمعي تعويضي لخلق الأوهام بأننا أصحاب أمجاد باهرة زالت بفعل تآمر الآخرين علينا مما أوصلنا إلى ما نحن عليه حاليا من بؤس وفاقة وتخلف!
سيبقينا الاستسلام لنظرية المؤامرة في دائرة العجز عن صناعة التغيير الإيجابي في مجتمعاتنا. لذا علينا أن نخرج من شرنقة العقل المنفعل إلى أفق ومرحلة العقل الفعّال المنتج والقادر على التأثير والخلق والإبداع، حتى نستطيع النأي بأنفسنا عن المجتمعات المحبطة والغارقة في مستنقع البؤس الذي يجعلها أكثر تقبلاً لنظرية المؤامرة الكونية من غيرها. وإذا نجحنا في تحرير أنفسنا من أوهام التآمر وزيفه، سنصبح قادرين على ممارسة السياسية على أرض الواقع حيث تتنافس المصالح لتحقيق الربح، بدلاً من أن نبقى في عالم المثاليات حيث التفسيرات المسطحة التي ترى العالم من منظار الابيض والأسود فحسب.
وعليه يمكنني القول إن الخروج من سجن نظرية المؤامرة مشروط بتشخيص الخلل الذي تعاني منه مجتمعاتنا، وذلك من خلال قراءة واقعنا قراءة موضوعية تساعدنا على معالجة مكامن الضعف الذي نعاني منه، وبالتالي الانعتاق من وطأة الضغوط التي يفرضها علينا وهم المؤامرة الكونية.