بقلم: حسن إسميك – صحيفة “إيلاف”
الشرق اليوم – “السلام عليكم”.. هي تحية الإسلام التي يحيي بها المسلم إخوانه البشر، و”السلام” اسم من أسماء الله جلّ وعلا، فالله هو السلام ومنه السلام وإليه يعود السلام، وسلامه مقرون بصلاته على نبيه محمد (ص)، كما أنه متّصل بجميع الأنبياء من قبله. لا بل هناك ما هو أبعد من ذلك، فالسلام والإسلام من جذر واحد في اللغة (سلم)، كما أنهما اقترنا في الحديث النبوي الشريف الذي رواه الشيخان “المسلم من سَلِمَ المسلمون من لسانه ويده”.
وكان في حديث آخر قرين الإيمان وعلّته، وسبباً لسلامة القلب من الغل والحقد، إذ قال رسول الله “لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم”.
يحض الحديث على نشر السلام كحالة وسلوك وثقافة بين الناس، فبِهِ تتحقق المحبة، وبالمحبة يكون الإيمان، ومع الإيمان يأتي ثواب الله ونعيمه.
بالإضافة إلى ذلك كله، أوصى القرآن بأن يكون السلام هو سنّة عباد الرحمن ومرجعيتهم إذا صادفوا سلوك السفه والجهالة من الآخر: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً﴾، والقول هنا لا يعني الكلام الطيب فحسب، بل والفعل الطيب أيضاً، فلا يردون على الجهالة بجهالة أخرى، بل يعفون ويصفحون. ومن هذه الآية ذهب أغلب أهل الرأي إلى أن السلام لا يقف عند حدود العلاقات بين المسلمين أنفسهم فقط، بل هو الأصل أيضاً في علاقة المسلمين بغيرهم، هدفه مد جسور الألفة ونشر الخير وتطبيق العدل في الأرض.
وردت كلمة السلام وما يشتق من جذرها اللغوي 140 مرة في القرآن الكريم، وجاءت بمعانٍ متعددة بدءاً بكونها أحد أسماء الله الحسنى، وانتهاء بأنها السلوك الحسن أو الاطمئنان والسلامة والأمان والخير. وإذا كان من الدارج أن تقابل الحرب السلام في لغتنا العربية، وفي كل لغات العالم أيضاً، فقد ورد ذكر الحرب في القرآن الكريم ست مرات (أربع مرات كاسم ومرتين كفعل). ولا يمكن اعتبار كل من كلمتي الجهاد والقتال في سبيل الله متضادتين لكلمة السلام، لأن اتساع نطاق معنى السلام في الآيات القرآنية يجعله يشمل حتى الجهاد والقتال ويمكن القول إن السلام مثّل مبدأ عاماً لكل أفعال المؤمنين ومن ضمنها الجهاد، الذي شرّعه الله بهدف الحفاظ على السلام وحماية الضعفاء من الظالمين ومواجهة كل من يحول بين دعوة الله وبين الناس، وعليه فهو مختلف كل الاختلاف عما كان يفهمه العرب من كلمة الحرب قبل الإسلام، والتي تعني الاعتداء على الآخرين لسلبهم أموالهم أو ممتلكاتهم. كما أن قول الله تعالى ﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا﴾ يؤكد على تبنّي الإسلام لمبدأ السلم والسلام حتى في أشد لحظات القتال.
تؤكد هذه المقاربة التحليلية للألفاظ أن الإسلام دين سلام وتسامح، حضّ على كل ما تعنيه الكلمة من الاحترام المتبادل والاعتراف بحقوق وحريات الآخرين، وحمل في طيّاتِهِ العديد من الأخلاق الحميدة التي يمكن وَصفها بالجسر الذي يُوصِل إلى السماحة المرجوّة؛ فدعا إلى طلاقة الوجه، وإفشاء السلام، وقضاء حوائج الناس، وحسن المعاملة والأخلاق، ومحبة الآخرين. ومنذ جاء هذا الدين رافعاً شِعار “لا إكراه في الدّين” لم يُجبَر أيّ من أتباع الديانات الأخرى على الدخول فيه ، بل أوجب على المسلمين الإيمان بأنبيائهم وكتبهم، وشَرَعَ الحقوق والواجبات من أجل تنظيم حياة غير المسلمين داخل المجتمع الإسلاميّ، مبيناً أن العقائد لا تغـرس بالإكراه، وإنما بالقناعة أو التربية.
هكذا اتبع الإسلام أسلوب الترغيب لدعوة الناس وأمر بالتعايش مع غير المسلمين وحمايتهم ودعوتهم بالحسنـى ما داموا مسالمين متعايشين مع المؤمنين، قال تعالى ﴿لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُواْ إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾.
وباعتباره دين الرحمة والعفو، فقد نهى الإسلام حتى في حالة الحرب عن قتل الأطفال، والنساء، والشيوخ، والعجزة؛ كما حرّم هدم البيوت وقطع الأشجار والتخريب، وكل ما يتناقض مع السلام أو يعارضه أو ينتقص منه. أما اتهام الإسلام بأنه دينٌ إقصائي يدعو للتطرف والعنف، فليست هذه سوى دعوة حاقد أو جاهل. والمشكلة أن بعض من يساهمون في شيوع هذه الاتهامات هم من المسلمين أنفسهم، ممن يرتكبون جرائم عنف وإرهاب باسم الدين، ويُبرّرون أعمالهم الوحشية بقراءة حرفية للآيات بمعزل عن سياقها. لذلك لا بدّ من تجفيف المنابع الفكرية للعنف والإرهاب عن طريق العودة إلى تراثنا الإسلامي لرفع الشبهة عن تأويلات النصوص القرآنية، وإعادتها إلى التفسير الصحيح بعيداً عن مظاهر العنف كافة.
ومن الآيات الإشكالية في فهم فلسفة الجهاد من منظور الشرع الإسلامي ما تُعرف بـ “آية السيف” (وهو مصطلح يتعارض مع الرؤية الإسلامية الداعية للسلام والألفة) والذي استخدمه بعض المفسرين للإشارة إلى الآية 5 من سورة التوبة ﴿فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وأَقَامُوا الصَّلَاةَ وآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾. وعلى هذه الآية بنى التيار “الجهادي” مقولاته التأسيسية للعنف والعدوان معتبراً أن عدم الإيمان بالله والإسلام يعدّ مبرراً لإباحة قتل الإنسان حتى وإن لم يكن عدواً محارباً.
لكن يجدر التأكيد على وجوب قراءة الآية في سياقها القرآني لا يؤدي إلى النتيجة التي وصل إليها بعضهم من أنها دعوة لقتال أهل الأرض جميعاً لاعتناق الإسلام. فالمقصود بالمشركين هنا ليس اليهود ولا النصارى، وإنما فريق ممن نقضوا معاهدة بينهم وبين رسول الله معاهدة وأخرجوا المسلمين من ديارهم وبادروهم بالقتال، فأذن الله بحربهم وقتالهم، أما بالنسبة لما أمر كتاب الله به من قتال الذين يستبيحون المحرمات وينتهكون الأعراض، فيكون قتالهم دفاعاً عن النفس والآخرين وليس بمعنى الاعتداء. ونجد أيضاً في أحكام القرآن عدم جواز البدء بالقتال إلا بعد توافر الأسباب الموجبة له، لقوله تعالى ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ، الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾. فالقتال هنا مسموح به لأهداف سامية، وضمن ضوابط راقية، لأنه في سبيل الله ولذلك كان فعل الجهاد مشروطاً بكثير من الاعتبارات الفقهية التي تضبطه، كما أجمع العلماء على حصره بيد ولي الأمر الذي لا يجوز الخروج عن سلطته.
في هذا السياق لا بد من طرح السؤال التالي: كيف يقرر القرآن الكريم حرية الاعتقاد وعدم إكراه الناس في الدخول بالإسلام؛ وقتالهم في الوقت نفسه؟ والجواب أن الإسلام قد شرّع القتال في سبيل الله لأهداف محددة، هي: رفع الظلم والعدوان عن الدين أو النفس أو الأرض؛ ردع المعتدين ومنعهم عن الأذى والفساد؛ أو مواجهتهم حين ينقضون العهود والمواثيق.
وقد بيّن القرآن الكريم أن المؤمنين الذين صدّقوا بالله ورسله، وبيوم البعث والحساب، وعملوا بشرعه، ممن كانوا قبل بعثة النبي من اليهود والنصارى والصابئين، هؤلاء جميعاً مثلهم كمثل المسلمين في أن ثوابهم ثابت عند ربهم. قال تعالى ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾.
لقد حرّم الإسلام الاعتداء على كافة المخلوقات، إلا أن أكبر وأعظم الجرائم عند الله هي قتل نفس بغير حق. فلا يجوز الاعتداء على غير المسلمين، ولا تهجيرهم أو إيذاؤهم، بل يجب أن تؤدّى لهم حقوقهم التي كفلها الإسلام، ما لم يعتدوا. والأساس في القتل هنا هو القصاص وتحقيق العدل. وعليه، فإن عقاب قتل غير المسلم إذا لم يكن محارباً معتدياً كقتل المسلم في التحريم والعقوبة، لأنه إزهاق لنفس إنسانية خلقها الله لعبادته وخلافته على الأرض، وهذا ما يجب أن يكون في ظل دولة المواطنة التي لا تفرّق بين أبنائها مهما اختلفت معتقداتهم.
أخيراً.. إن ما لاحظناه كثيراً، وما زلنا نلاحظه حتى اليوم، أن من يمارسون الإرهاب باسم الإسلام، ويفرضون تفسيراتهم الشاذة على النص القرآني في تبرير العنف والإرهاب وسفك الدماء، فإنهم لا يمارسون إرهابهم ضد غير المسلمين فحسب، بل إن من يتلظى من نار إرهابهم أولاً هم المسلمون أنفسهم، وفي دول الإسلام قبل غيرها من الدول. أفلا يدل هذا على أن مشكلة العنف ليست في الدين ولا في القرآن، وإنما في النفوس التي شذّت عن الفطرة السليمة وعن دين الله وهدي نبيه الكريم، فأين هؤلاء وسلوكهم مما أوصى به عليه الصلاة والسلام المسلمين في خطبة حجة الوداع يوم النحر في مِنى، قائلاً “إنّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا هل بلّغت؟” اللهم فاشهد.