By: Johannes Rick
الشرق اليوم- الافتقار إلى تنظيم احتكارات التقنية يشكل أكبر خطر على الديمقراطيات الليبرالية
عندما تراجعت الأزمة المالية العالمية ببطء في ربيع عام 2010، بلغت القيمة السوقية الإجمالية لعمالقة التقنية أقل من 450 مليار يورو. وتحولت هذه الشركات إلى محركات ابتكار رسمت مسار التطور في بيئة تكنولوجية عالمية مزدهرة تنطلق من رؤية إبداعية قائمة على التقنية.
وشهد العقد الماضي تحولاً لافتاً في علاقات هذه الشركات مع المجتمع حتى صارت كل شيء في حياتنا. وأثناء أزمة فيروس كورونا، زادت قيمة عمالقة التقنية بشكل أكبر. وتبلغ القيمة السوقية لشركات التقنية مجتمعة 6 تريليونات يورو، ما يعادل خمسة أضعاف مؤشر «داكس» الألماني بأكمله. وزادت هيمنة الشركات حتى على حكومات بعض الدول ولم تترك لها من خيار سوى الإذعان لشروطها.
فعندما أرادت أستراليا فرض قانون جديد بشأن المكافأة العادلة لدور النشر التابعة لها، هددت «جوجل» بلا خجل بإغلاق محرك البحث الخاص بها في البلاد.
ويبدو أن العديد من السياسيين الألمان والأوروبيين قد استسلموا للهيمنة الفائقة لشركات التقنية، التي لا تشغل قضاياها المعقدة حيزاً كافياً في الحملات الانتخابية، رغم الجدل الإعلامي الذي يدور حولها.
ولديّ قناعة راسخة بأن الطريقة التي نتعامل بها مع الاحتكارات التكنولوجية الأمريكية ستتحكم في مستقبل أوروبا. ولم يحدث من قبل في تاريخ قارتنا أن قلة من الشركات تمتلك مثل هذا القدر من القوة، كانت قادرة على أن تمارس مثل هذا التأثير العميق في حياتنا.
وحتى لو بدا الأمر شبه مستحيل، فإن الثورة التكنولوجية لم تنته بعد. بل على العكس، ما زلنا في المراحل الأولى. لذا أقول إنه لا يزال بإمكاننا وضع القواعد التي سترسم مستقبلنا إذا أردنا. لكن حيز المناورة يتقلص، والوقت ينفد. وإذا أردنا معرفة ما يجب القيام به، فمن الضروري أن نفهم بشكل أعمق آليات عمل احتكارات التقنية.
تعيش احتكارات التقنية على البيانات والخوارزميات ورأس المال، ما يعني أن العالم الرقمي يعمل بشكل مختلف تماماً عما صممنا عليه أنظمتنا التعليمية في القرن العشرين. بمعنى أوضح، يتم تقييم سلوك العملاء في العالم الرقمي في الوقت الفعلي، ما يتيح تحسين الخدمات الرقمية باستمرار، ومواءمتها بدقة مع احتياجات العملاء ورغباتهم. وكلما تم جمع المزيد من البيانات، كان عمل الخوارزميات أفضل، وزادت ملاءمة العروض المقدمة للعملاء.
وعلى مدار العقد الماضي، بَنت شركات التقنية ميزة تنافسية ضخمة لأنها تتحكم في أنظمة التشغيل ومحركات البحث والمتصفحات والبنية التحتية السحابية. كما تسيطر أيضاً على الأسواق ومنصات الاتصال والأجهزة المنزلية المتصلة بالشبكة ومتاجر التطبيقات.
وتتيح الربحية الهائلة لخدمات البنية التحتية لشركات التقنية الاستثمار في مجالات أعمال جديدة على المدى البعيد، من هنا، فهي على استعداد لقبول خسائر كبيرة لسنوات عدة من أجل إضعاف المنافسين وتضخيم حصتها في السوق. ونظراً للقيمة السوقية الهائلة لشركات التقنية، من الضروري لها الاستمرار في احتلال أسواق كبيرة ومربحة للحفاظ على استمرار النظام التوسعي وزيادة أسعار أسهمها.
إن اعتمادنا على البنية التحتية لعمالقة التقنية يجعل الأمور صعبة للغاية على سلطاتنا الحكومية، لأنها تريد مساعدة المواطنين، لا أن تتسبب لهم بمشاكل. فمن الصعب تخيل حياة من دون هواتف متحركة وخرائط «جوجل» وتطبيق «واتس أب» وغيرها. ولا شك في أن تجميع الخدمات المختلفة معاً مثل دمج الخرائط في محرك بحث جوجل، أو الارتباط بين متاجر التطبيقات وأنظمة تشغيل الهواتف الذكية، يجعل من الصعب تفكيك الاحتكارات.
وينفق عمالقة التقنية المليارات على حملات الصور وتوظف جيشاً من جماعات الضغط في برلين وبروكسل وواشنطن العاصمة. ولا تكاد توجد جمعية واحدة أو منظمة غير حكومية أو مركز ناشئ في المجال السياسي لا يحصل على دعمه بطريقة، أو بأخرى. وحتى السياسيين ورجال الأعمال الذين يتحدثون عن البدائل، تعرضوا للهجوم من قبل جماعات الضغط وصناع الرأي، أو تعرضوا للهجوم في وسائل الإعلام أو تضررت أعمالهم.
من هنا فإن الافتقار إلى تنظيم احتكارات التقنية يشكل أكبر خطر على الديمقراطيات الليبرالية.
وهناك سيناريوهان محتملان للخروج من أزمة الاحتكارات التقنية. وإذا واصلنا العمل من دون قواعد تنظيم صارمة، فسوف ينمو الاستقطاب داخل المجتمع وتتقلص الفرص الاقتصادية المتاحة للشركات الصغيرة بسبب الأرباح المتزايدة للاحتكارات، بينما تتسع دائرة سيطرة احتكارات عمالقة التقنية على مجالات أعمال جديدة بأكملها.
إن التمركز المتزايد للقوة الاقتصادية سيؤدي في المدى المتوسط إلى تآكل اقتصاد السوق. وسوف يتطور ذلك قريباً إلى اضطراب اجتماعي، وصراعات على الحصص، وزعزعة متزايدة لديمقراطيتنا الليبرالية، التي لن تكون قادرة على السيطرة على تفاقم ظاهرة التفاوت الطبقي. وقد لا يكون من الممكن أن ينتهي هذا السيناريو المظلم إلا بدولة يديرها شعبويون استبداديون.
السيناريو الثاني هو العودة إلى السيادة الأوروبية واقتصاد السوق الاجتماعي. وهذا الاتجاه تزعمته المفوضية الأوروبية التي تباطأت تحت ضغوط فشل الاتحاد الأوروبي في الإجماع على موقف موحد. وهذه نقطة الضعف التي كانت الشركات الأمريكية تستغلها لسنوات عدة.
والخلاصة أن التنظيم بعيد المدى للاحتكارات التقنية ضروري بشكل عاجل ولا مفر منه، إذا أردنا بقاء الديمقراطيات الليبرالية في العالم الغربي. وهذا ليس في يد الاتحاد الأوروبي فحسب، بل هو في النهاية قرار من حكومة الولايات المتحدة. ولهذا السبب يجب إعطاء هذا الموضوع الأولوية القصوى في السياسة الخارجية الأمريكية والأوروبية.
نقلاً عن الخليج الإماراتية