بقلم: حسن إسميك – النهار العربي
الشرق اليوم- حضرت ذات مرة حفل تخرج في إحدى الجامعات العالمية المرموقة التي كان يدرس فيها صديقي. اصطف خريجو الفلسفة الجدد لالتقاط الصورة التذكارية بزيهم الأكاديمي، ومع الصورة الأخيرة طارت القبعات عالياً وجالت الضحكات في أرجاء القاعة، كان فرحُ الخريجين يبثّ البهجة فيّ أنا أيضاً. ولكنني وجدت نفسي حائراً بجواب عن سؤال بدا للوهلة الأولى غير جوهري، وها هو الآن يقودني إلى متاهة شيقة وغنية بودي أن أتشاركها معكم.
والسؤال هو: كيف ظهر تقليد القبعات؟ ما هو هذا الطقس الذي يقتضي ارتداءها، ولماذا يبعث كل هذا الحبور في نفوس الخريجين؟
لم أعرف بدايةً أن الجواب في الأصل كان أمامي، فأطروحة التخرج الخاصة بصديقي كانت تدور حول علاقة ديكارت بابن رشد.
لا بد للبحث عن الجواب من أن يصل بنا إلى أرسطو الذي استقى منه ابن رشد فلسفته، ذلك لأن رحلة قبعة التعليم الأكاديمي بدأت بشكل أو بآخر في أثينا حيث تعلم في مدرسة أفلاطون. وانتشرت فكرة هذه المدرسة حاملة مصطلح الأكاديمية آخذة بالتوسع ليختلف تعريفها ويتطور بين زمن وآخر. وقد ساهم طلاب أفلاطون، وعلى رأسهم أرسطو، بتمدد هذه الفكرة وترسيخها كتقليد إنساني رائج عالمياً. ومن تلك الأكاديمية أخذت الفلسفة الانتشار خارج حدود أثينا أولاً، ثم باتجاه شرق العالم وجنوبه. وساعد على هذا الرواج أن معنى الفلسفة لم يكن عند اليونانيين محدداً كما هو لدينا اليوم، فهي كانت تعني “الحكمة” التي مثّلت جوهر المعرفة وأساس كل علم. وبذلك كانت الأكاديمية التي انطلقت في الأصل لتعليم الفلسفة هي مقدمة ما سيعرف لاحقاً بالمؤسسة التعليمية.
ساهمت أفكار اليونانيين ببناء العقل البشري وتفسيره على مر العصور، إلى أن وصلت إلى العرب، بعد ترجمتها إلى اللغة العربية مباشرة، واحياناً عبر اللغة السريانية، فلقيت اهتماماً كبيراً من جانبهم، رغم أن “المسلمين كانوا يدركون آنذاك أن الحكمة اليونانية تحتوي على عناصر غريبة عن الإسلام، لكنهم كانوا مقتنعين أن هذه العلوم ستساعد في ترسيخ الإيمان، كما أنهم كانوا على قناعة بأن كل معرفة إنما تنطوي على شيء قيم، الفكرة التي وجدت المسيحية صعوبة في اكتشافها” وتأخرت في التعرف اليها كثيراً بسبب هيمنة رجال الدين والسياسيين، كما يرى المستشرق الفرنسي كلود كاهن.
ولكن العرب أخذوا عن اليونان الفلسفة وليس الأكاديمية، ذلك لأن إيمانهم بعلاقة العلم الوثيقة بالدين دفعهم إلى إقامة حلقات التعليم في المساجد، وبدأوا أولاً بتدريس علوم القرآن والكلام، في جامع الزيتونة في تونس، الذي سرعان ما أخذ أساتذته يدرّسون باقي العلوم الشرعية واللغوية والفلسفية، حتى تحول في عام 737 م “جامعة”. هكذا صارت “الزيتونة” أقدم جامعة في التاريخ.
وفي مدينة فاس المغربية، شُيّدت عام 859 م جامعة القرويين التي تعتبر أوّل مؤسسة علمية أكاديمية بالمعنى الذي نفهمه اليوم، هيأت التخصص في العلوم ومنح الدرجات الأكاديمية العليا، وقد دُرّس فيها الطب والفلك والفكر والإسلاميات وعلوم المنطق والفلسفة والحساب وغيرها. وكان علماء الأندلس يقصدون جامعة القرويين للاستفادة من علمائها ودراسة الشهادات العليا على أيديهم. ثم جاء دور المؤسسة الدينية العلمية الأكبر في العالم وثالث أقدم جامعة في التاريخ بعد جامعتي الزيتونة والقرويين، وهي الأزهر التي عرفت أولاً باسم “جامع القاهرة” عام 970 م قبل أن تبدأ، بتدريس علوم الدين واللغة والقراءات والمنطق والفلك والحساب، على غرار جامعة القرويين.
حصل كل ذلك قبل تأسيس الجامعات في أوروبا، ففي عام 1088 م أنشئت أول جامعة أوروبية في بولونيا في إيطاليا، وصاغت تعريفاً للجامعة على أنها “مجتمع المعلمين والعلماء”، تلتها جامعة باريس المعروفة بالسوربون، ثم أكسفورد وكامبردج في إنكلترا، وغيرهما من الجامعات التي تعتبر حالياً من أهم المؤسسات العلمية في العالم، والتي لا نغالي إذا قلنا إنها تعود بجذورها للجامعات العربية الثلاث الأولى.
لم يكن هذا السبق قابلاً للتحقق لو أن علوم المسلمين اقتصرت على الموضوعات الدينية فحسب، ذلك لأن العرب لم يكونوا مجرد ناقلين للتراث اليوناني وشارحين له، بل هو أثّر في تطور فكرهم بشكل عام، وأثروا هم فيه وأضافوا عليه أيضاً، ولم يحتكروا العلم لأنفسهم فقط، بل استقبلوا طلاب المعرفة من الأوروبيين حتى لو لم يكونوا مسلمين، لينهلوا من المدارس والجامعات العربية. وبالإضافة إلى انطلاق حركة الترجمة آنذاك، كانت للموقع الجغرافي أيضاً أهمية كبيرة في انتقال العلوم كافة وعلى رأسها الطب والفلسفة والكيمياء والرياضيات إلى أوروبا. ثم بدأت الحروب الصليبية التي كان من حسناتها أنها سلطت الضوء على مكانة الشرق، وساهمت في نقل الثقافة العربية إلى أوروبا عبر مراكز الترجمة مثل: طليطلة في إسبانيا، ومرسيليا وتولوز ومونبلييه في فرنسا، وجزيرة صقليا في إيطاليا وغيرها.
كان لتطور العلوم العربية أثر واضح في نشأة الحضارة الأوروبية وأكدت زيغريد هونكه ذلك في كتابها “شمس العرب تسطع على الغرب” (الذي كان عنوانه الأصلي “شمس الله تسطع على الغرب”)، قائلة إنه لم يكن هناك عالِمٌ واحد من بين العلماء في أوروبا إلا ومدّ يديه للكنوز العربية لسدّ ما لديه من ثغرات والارتقاء بمستوى عصره العلمي. وفي الحقيقة، فإن الفكر العربي لم يعدم الوسيلة لبلوغ أوروبا حيث نبتت أولى بشائر عصر النهضة التي يستدل عليها عادة بوصول أفكار ابن رشد إلى الفلسفة الأوروبية من طريق المفكر اليهودي البارز ابن ميمون المعاصر لابن رشد، والذي تبنى فلسفته بالكامل تقريباً، فكان نموذجاً فريداً للتدليل على وحدة العقل البشري من جهة، ووحدة الرسائل السماوية من جهة ثانية.
بعد مساهمة الجامعات العربية في ولادة عصر النهضة في أوروبا، شهدت فكرة المؤسسة الجامعية في القارة مرحلة متطورة، فأصبحت منشأة مستقلة بحد ذاتها، لها أبنيتها الخاصة المقسمة بحسب الاختصاصات التي تتضمنها، ولكل قسم كوادره التابعة لإدارته، وكانت الأفكار العلمانية الجديدة حينها من أهم الأسباب التي دعت إلى استقلال العلوم وتحررها من الرقابة اللاهوتية الصارمة التي كان يمارسها رجال الدين سابقاً. وهكذا استطاعت الجامعات تدريجياً عبر القرنين الأخيرين أن تخرج من تحت عباءة الدين أولاً، ثم الميتافيزيقا ثانياً، ما سمح بظهور أهم فروع العلوم الطبيعية الحديثة (الفيزياء النيوتينية وكيمياء لافوازيه وبيولوجيا داروين)، وبإنشاء مخابر للجامعات الجديدة ومراكز أبحاث ومكاتب إعلامية ما جعلها كياناتٍ مؤثرة في شكل العالم.
لقد وفرت هذه الحرية الأكاديمية التربة المناسبة لتطور العلوم وأساليب المعرفة، ومنح الدرجات الأكاديمية بتصنيفاتها (البكالوريوس والليسانس والماجستير والدكتوراه) المعتمدة حتى اليوم. وكان لا بدّ لهذه الكيانات من مراكمة تجربتها وتطوير بناها وأساليبها من أجل الحفاظ على مستواها الرفيع والإبقاء على مكانتها في المجتمع العلمي الذي تتطور متطلباته دائماً باطراد، خصوصاً في العصر الحديث، وتحديداً بعد ثورة الاتصالات، إذ لم تعد عراقة المؤسسة التعليمية في بلد ما معياراً لحضارته، إنما أصبحت قدرة البلد على الاستفادة من علومه في الإنتاج هي المعيار الأساس.
وهنا برزت تجارب وأفكار مهمة حاولت تقصير المسافة بين عملية التعلم والإنتاج، كما فعلت شركة “سيمنس” الألمانية التي فتحت أبوابها أمام الشباب بغض النظر عن مستوى تحصيلهم العلمي، وأقامت شراكات مع جامعات في أوروبا والعالم منها جامعة نيوكاسل البريطانية مثلاً، وذلك لإتاحة فرصة التعلم بالممارسة وتجاوز التعليم التقليدي القائم على التلقين النظري والممارسة العملية المحدودة. فالشراكات التي عقدتها “سيمنس” تسمح للطلاب بالعمل جنباً إلى جنب مع المهندسين والخبراء والمسؤولين التجاريين حتى يكتسبوا الخبرة العملية. وبعيداً من شركة “سيمنس”، تطرقت جامعات عديدة إلى التعليم من طريق الممارسة في اختصاصات متفرقة منها الاقتصاد والتربية والسياسة.
وللأسف… تبدو هذه التجارب اليوم بعيدة كل البعد بالمقارنة مع المستوى المتدني الذي وصلت إليه بعض جامعاتنا العربية، والتي تكاد تخلو من أي خبرة عملية يتزود بها الطلاب الذين يتخرجون بعد أعوام من التلقين ليجدوا أنفسهم ضائعين في سوق عمل يطلب الخبرة ولا يجدها إلا بشق الأنفس. ويكاد يخيل إلينا أن بلداننا لم تكن يوماً مهد أولى الجامعات المؤثرة في تاريخ الإنسانية، والتي كانت جميعها مراكز إشعاع فكري أسس لعصر النهضة الأوروبية، حتى ليبدو وكأن الزمن قد سار معكوساً بالنسبة الينا، كما قال البروفسور آلان تالون الباحث في جامعة السوربون إن “مأساة العرب تكمن في أن عصورهم الوسطى جاءت بعد نهضتهم وتنويرهم”.
هنا نكون وصلنا إلى نهاية المتاهة التي دخلنا فيها بداية المقال، حين أردنا الإجابة عن السؤال المتعلق بقبعات التخرج. ومع أن ثمة آراء متباينة حول أصل هذا التقليد وسببه، فإن من أكثر هذه التفسيرات غرابة نجدها في الحكاية التي تقول إن العرب المسلمين قد أوجدوا هذه القبعات في الأندلس وضمنوها مصحفاً صغيراً يوضع فوق الرأس عملاً بقوله تعالى “نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم” (الآية 76، سورة يوسف).