بقلم: حسن العطار – صحيفة إيلاف
الشرق اليوم- شاع استخدام مصطلح الأمن القومي بعد الحرب العالمية الثانية، إلا ان جذوره تعود الى القرن السابع عشر وخاصة بعد إبرام معاهدة وستفاليا عام 1648م التي أسست لولادة الدولة القومية – الأمة. وشكلت الحقبة الموصوفة بالحرب الباردة الإطار أو المناخ الذي تحركت فيه محاولات صياغة مقاربات نظرية وبنى مؤسسية وصولا إلى طغيان استخدام تعبير “إستراتيجية الأمن القومي” منذ تسعينيات القرن الماضي. ويمكن اعتبار عام 1947م المحطة لانطلاق مصطلح الأمن القومي في المسرح الأمريكي، وبداية التشكيل التنظيمي المؤسساتي له بصدور “قانون الأمن القومي لعام 1947م عن الكونجرس الأمريكي، لكن بقية العالم تأخرت في استخدام هذا المصطلح.
تشير دائرة المعارف البريطانية إلى ان تعريف الأمن القومي هو:” حماية الدولة – الأمة من خطر القهر على يد قوة اجنبية.”
أما “روبرت مكنمارا” وزير الدفاع الأمريكي خلال حرب فيتنام فيقول في تعريفه: “إن الأمن القومي يعني التطور والتنمية، سواء منهما الاقتصادية والاجتماعية أو السياسية في ظل حماية مضمونة. والأمن الحقيقي للدولة ينبع من معرفتها العميقة بالمصادر التي تهدد مختلف قدراتها ومواجهتها، لمنح الفرصة لتنمية تلك القدرات تنمية حقيقية في مختلف المجالات سواء في الحاضر أو المستقبل”. أما “هنري كيسنجر” الذي تقلد منصبي الأمن القومي والخارجية في السبعينيات من القرن الماضي، فتعريفه للأمن القومي هو: “الإجراءات المتخذة من قبل المجتمع توخيا للحفاظ على حقه في البقاء”.
ويعرف “الدكتور منذر سليمان” الأمن القومي العربي بما يلي: “السعي الدؤوب الى تحقيق الأمن النفسي والجسدي لمواطني الأمة، عبر استخدام عناصر ومقومات القوة المتنوعة التي تملكها الأمة للحيلولة دون تعرضها لمخاطر خارجية او داخلية تهدد وجودها ونمط عيشها او حياة مواطنيها، وضمان التطوير والتنمية لعناصر القوة والمقومات التي تملكها، والعمل بكل الوسائل المتاحة وتوظيف جميع عناصر القوة والمقدرات لاسترداد الأجزاء المغتصبة والمحتلة من أراضي الأمة، وتأمين عودة المشردين والنازحين إلى ديارهم الأصلية”.
كان الأمن القومي ولا يزال المسألة التي تشغل بال الدول والحكومات مهما بلغ حجم القوة التي تحت تصرفها ونوعها، وتوفير الأمن على نسبيته يشير الى نجاح السياسة الأمنية للدولة وقدرة أجهزتها المختصة على بلوغ الأهداف المرسومة. لهذا تعمل الدول بكل ما أوتيت من قدرات على حماية أمنها القومي من الاختراق. وهنا نتساءل: هل نجحت الدول العربية في تحصين أمنها القومي من الاختراق؟ الجواب بالطبع “لا”، وإليكم الحوادث التي تثبت ذلك:
في عام 1981م قامت الطائرات الإسرائيلية بتدمير مفاعل تموز النووي العراقي، ورجعت الى قواعدها في إسرائيل سالمة. أين كانت الدفاعات العسكرية الجوية والأرضية العراقية وقتها؟ وكم بلدا عربيا اخترقت الطائرات الإسرائيلية أجواءه في الذهاب والإياب من دون التمكن من رصدها؟
في منتصف الثمانينيات من القرن المنصرم تمكن الإسرائيليون من إنزال قوات كوماندوز على السواحل التونسية ليلا، ثم تسللوا الى العاصمة “تونس” حيث قاموا باغتيال الشهيد “خليل الوزير – أبو جهاد” الرجل الثاني في منظمة التحرير الفلسطينية وحراسه، وعادوا سالمين غانمين الى إسرائيل من دون علم السلطات التونسية.
في شهر سبتمبر 2007م، قامت الطائرات الإسرائيلية بتدمير موقع عسكري سوري في منطقة دير الزور تدعي إسرائيل أنه منشأة عسكرية لتصنيع أسلحة نووية، والأدهى من ذلك انه يقال أن إسرائيل قبل ان تتخذ قرار تدمير ذلك الموقع قد قامت أولا بزيارة الموقع وأخذت عينات من تربته لفحصها، ثم جاءت لاحقا ودمرته. أين كانت الدفاعات العسكرية السورية وقتها التي تحمي الحدود والأجواء، وخصوصا أن سوريا في حالة حرب معلنة مع إسرائيل؟
في شهر يناير من العام 2009م، قامت إسرائيل بتدمير قافلة برية تضم 17 شاحنة “لاند كروزر” قرب مدينة بورتسودان في شرق السودان وتدمير 4 مراكب في البحر الأحمر داخل المياه الإقليمية السودانية. تلك الغارات الإسرائيلية التي استخدمت فيها طائرات من دون طيار استهدفت (كما ذكر وقتها) عملية تهريب سلاح إيراني الى حركة حماس عبر السودان. رئيس الوزراء الإسرائيلي وقتها “إيهود أولمرت” قال تعليقا على هذه الغارة: “إن إسرائيل تعمل حيث تستطيع لضرب اعدائها، ولا يوجد مكان لا تستطيع العمل فيه”، وهذا يعني صراحة أن جميع الدول والأراضي العربية هي اهداف مشروعة لغارات إسرائيلية مستقبلية.
سقوط المشروع القومي العربي، وانهيار نظرية “الأمن القومي”، ليسا في نهاية المطاف، سوى نتيجة حتمية ومسارا إجباريا لأنظمة فقدت شرعيتها في الداخل، أو لم تكن تحصلت عليها أصلا لكي تفقدها لاحقا. والفاقدون لشرعيتهم في الداخل يحاولون البحث عنها في الخارج، حتى وإن تكلف الأمر حرمان دولهم وشعوبهم فرص الوصول إلى مستقبل آمن ومزدهر. ومنذ ما يعرف بالربيع العربي (نهاية 2010م وبداية 2011م) وحتى يومنا هذا، فقدت أربع دول عربية – سوريا والعراق وليبيا واليمن – مفهوم الدولة، حيث أصبحت هذه الدول المستباحة مسرحا مفتوحا تتصارع للسيطرة عليه كل من الولايات المتحدة وإسرائيل وتركيا وإيران، ويبدو ان لبنان في طريقه الى اللحاق بالدول العربية الأربع.
الحديث عن استباحة الأمن القومي العربي لم ينقطع منذ سنوات، البعض يعزو ذلك لغياب التضامن العربي وغياب الحد الأدنى من الاتفاق على القضايا والأولويات، والبعض الآخر يذهب إلى أبعد من ذلك فيقول بغياب المشروع العربي الجامع. المعروف أن اغلب الدول العربية تخصص ما بين %30 و 35% من ميزانياتها السنوية لوزارتي الدفاع والداخلية وهي من اعلى النسب في العالم، والمحصلة النهائية لا ترقى الى المستوى المنشود للحفاظ على الأمن القومي العربي.