الرئيسية / مقالات رأي / واشنطن تبحث عن إنجاز مرئي في السّياسة الخارجيّة

واشنطن تبحث عن إنجاز مرئي في السّياسة الخارجيّة

بقلم: راغدة درغام – النهار العربي

الشرق اليوم – تتلهّف إدارة بايدن الى إنجازٍ ملموس في السياسة الخارجية الأميركية، تطبع عليه بصماتها المميّزة المختلفة عن بصمات إدارة ترامب، لكنها تجد نفسها أحياناً عاجزة عن النقلة النوعية التي تتمناها، إما لأنها لم تقرأ جيداً الملفات أو لم تتعمَّق في فكر وعقيدة أنظمة ترفض التأقلم وتعتبر مجرّد تعديل عقائدها وتطويرها انتحاراً ومسألة إلغاء وجود.

لم تجد إدارة بايدن في الصين مُرشحاً لتحقيق الإنجاز المنشود، ولا هي في وارد إصلاح جذري في العلاقة بروسيا بالذات في هذا المنعطف. وجدت أن فنزويلا أصعب مما يبدو ظاهرياً، والتورّط في ملفها معقّد، لا سيّما أن عنوانه يتطلّب تغيير النظام. كوريا الشمالية أخطر من المغامرة. في الموضوع الفلسطيني – الإسرائيلي وجدت أن تبنّي إنجاز فريق ترامب في اتفاقيات أبراهام هو الأفضل للبناء عليه، لمصلحتها. إصلاح العلاقات بالحلفاء الأوروبيين في “الناتو” سهل، ولذلك يركّز عليه وزير الخارجية طوني بلينكن. لكن هذا ليس هو الإنجاز الذي تتطلّع إليه إدارة بايدن التي وضعت نفسها في قفص التوقّعات بابرازها ملف إيران والعودة إلى الاتفاقية النووية JCPOA – فهناك بدأت تذوق طعم الاستدراج والاستفزاز والابتزاز.

وعندما قرّرت أن موضوع اليمن يجب أن تكون له الأولوية لأسباب إنسانية في الدرجة الأولى، أتت المفاجأة بتصعيد الحوثيين ضد السعودية، ما فرض معادلة جيوسياسية جديدة.

فريق بايدن المعني بالسياسة الخارجية في وزارة الخارجية ومجلس الأمن القومي والبنتاغون منشغل بالتحدّيات الأفغانية، لا سيّما في ضوء احتمال إلغاء الرئيس بايدن قرار الرئيس ترامب سحب قوات أميركية من أفغانستان، وأمام تهديدات “طالبان” بالانتقام في حرب مفتوحة ضد القوات الأميركية. فملف أفغانستان مشروع قصّة تورّط وليس قصّة نجاح. 

ضمن ما يتحدّث عنه فريق السياسة الخارجية هو حاجة رئاسة بايدن الى قصّة نجاح، وبحسب قول أحدهم: إننا في حاجة الى نجاح ظاهر ومرئي visible success في السياسة الخارجية.

قيادات الجمهورية الإسلامية الإيرانية تعتقد أن تلك الحاجة بحد ذاتها تشكّل ذخيرة لها في عمليّة المقايضات التي في ذهنها. تعتقد، وبثقة، أن فشل بايدن هو قصّة لمصلحتها. إنها واثقة بأن عدم نجاح إدارة بايدن هو ورطة للرئيس بايدن وليس لإيران، ولذلك تجد في التلهّف والتشوّق الى قصة نجاح فرصةً لها، ليس فقط للتموضع أفضل في عملية المقايضات التي لا تتوقف عند ملف العودة الى الاتفاقية النووية، وإنما تشمل الملفات الإقليمية، كاليمن وسوريا ولبنان والعراق، كورقة خفيّة في المساومات. ما تريده هذه القيادات، كما نقلت عن إحداها مصادر مطّلعة، هو “اليد الحرّة” في منطقة الشرق الأوسط. وفي رأيها، إنها قادرة على تحقيق مثل هذا الإنجاز لأن إدارة بايدن في حاجة الى إنجاز لها في السياسة الخارجية.

إدارة بايدن ليست جاهلة في أنماط التفاوض الإيرانية، إلا أنها لم تكن تتوقّع رفع السقف بالحدّة التي رفعته فيها القيادة الإيرانية على مستوى مرشد الجمهورية علي خامنئي. ولذلك جاء رد الرئيس بايدن حازماً عندما سُئِل إن كان سيرضخ لإملاء المرشد بأن تكون الخطوة الأميركية الأولى رفع العقوبات المفروضة على إيران بكلمة “لا”.

القيادة الإيرانية تنظر إلى الصفقة النووية على أنها “البوابة الى الطريق، وليس الطريق”، بحسب ما نقله مصدر مقرّب من التفكير في طهران. ما تريده طهران هو صفقة متكاملة تكون لها فيها ضمانات استمرارها في سياساتها الإقليمية الممتدة من السيطرة على العراق ولبنان الى البقاء في سوريا من أجل تحقيق ما سُمٍّيَ بـ”الهلال الفارسي” الممتد الى البحر المتوسط. هذا يتطلّب تفاهماً ما مع إسرائيل، وطهران تبدو جاهزة لإحياء التفاهمات أو لصوغ نسخة جديدة منها.

اليمن يشكّل حلقة من حلقات المقايضات التي في ذهن طهران، لا سيّما بعدما جعلته إدارة بايدن أولوية لها. إنهاء الحرب اليمنية سلمياً ليس أمراً سهلاً، ليس فقط بسبب الدور الإيراني في اليمن ونحو السعودية، بل لأن المسألة اليمنية بالغة التعقيد وكانت دوماً عصيّة على كل من تورّط فيها أو حاول حلّها. والسؤال هو: هل هناك استعداد أميركي لحل عسكري في اليمن إذا فشلت كلياً محاولات لجم العمليات العسكرية ضد أمن السعودية وإذا ما فشلت كل المساعي لحلول سلميّة؟ والقصد هنا ليس التدخل الأميركي العسكري المباشر بل الانجرار الى دعم عمليات عسكرية سعودية لحماية سيادتها وأمنها.

ما سمعه المبعوث الأميركي المكلّف ملف اليمن، تيموثي ليندركينغ، أثناء زيارته الرياض هذا الأسبوع هو الترحيب الكامل بالمبادرة الأميركية والاستعداد التام لإنجاحها. لكن السؤال الذي طُرِح عليه هو: ماذا لديكم من أدوات نفوذ وتأثير levarage لإقناع الحوثيين بالتفاوض مع الأطياف اليمنية الأخرى ومع الشرعيّة ومع السعودية من أجل التوصّل الى الحل السياسي؟ ما حصل عليه ليندركينغ هو تعهّد الرياض بأن تكون شريكاً لواشنطن في إنجاح المبادرة الأميركية التي تلقى دعماً أوروبياً كبيراً.

الهجمات التي شنّها الحوثيون ضد المواقع السعودية المدنية لاقت ردّاً واضحاً من وزارة الدفاع ووزارة الخارجية الأميركية، إذ قال بلينكن إن الولايات المتحدة لن تقف مكتوفة الأيدي بينما يُهاجم الحوثيون السعودية. وزارة الدفاع أكّدت أن السعودية عمود أساسي في بُنية الأمن الإقليمي ومكافحة الإرهاب ومواجهة التصرّفات الإيرانية المزعزعة للاستقرار، كما جاء على لسان المتحدّث الرسمي باسم البنتاغون. الناطق باسم وزارة الخارجية قال إن الولايات المتحدة كرّرت ضماناتها بأنها تعتزم مساعدة السعودية على تعزيز قدراتها الدفاعية.

بلينكن اتصل بنظيره السعودي الأمير فيصل بن فرحان في أعقاب التصعيد من الحوثيين بدعمٍ ورسالة إيرانية واضحة قرأتها واشنطن جيّداً وقررت عدم الانحناء.

بكلام آخر، خدم التصعيد حيث لم يكن يقصد أن يخدم وذلك في توطيد العلاقة الأميركية – السعودية الجغرافية – السياسية.

هذا لا ينفي ولا يلغي العزم على إيجاد حل للمسألة اليمنية. وهذا يتطلّب جردة واقعية تنطلق من الإقرار بأن الحوثيين، بعد سنوات من حروب اليمن المعقّدة، كسبوا موقعاً أساسياً كمتمردين، وكشرعية، وكعنصر أساسي في أي حلول دبلوماسية لليمن.

التحالف الذي قادته السعودية اضمحلَّ شيئاً بشيء ووصلت الرياض إلى الإقرار بأنها بحاجة للتخلّص من اليمن إدراكاً منها أن كلّ من دخل اليمن احترق منذ 1962 حتى الآن. إيران استفادت من التعقيدات ومن انسحاب أطراف التحالف، فاستخدمت الفرصة لتحقيق مآربها الإقليمية. لكن هذا لا ينفي أن الدور الأساسي كان للحوثيين – بدعم عسكري إيراني – وأن خريطة طريق الحل تبقى عبر الحوثيين.

الاتحاد الأوروبي مفيد في مواقفه الداعمة لكل من المبعوث الدولي مارتن غريفيث والأميركي تيم ليندركينغ اللذين حملا في زيارتهما للرياض أفكاراً حول وقف النار وتحريك العملية السياسية نحو حل النزاع. الإغراءات المالية للحوثيين تشكل جزءاً من الأطروحات، وكذلك الحوافز السياسية والتنموية والإصلاحية لليمن ككل. لكن كل هذا يصطدم الآن بالإحراج الذي تتسبب به الهجمات الحوثية على مواقع سعودية مثل مطار أبها، والتي نقلتها الرياض في شكواها الى مجلس الأمن، ليس فقط إحراج الأميركيين والأوروبيين بل أيضاً روسيا والأمم المتحدة.

واشنطن تجد نفسها، نتيجة التصعيد الحوثي المدعوم إيرانياً، أمام الاضطرار للتشدّد، بما في ذلك الاستمرار بالعقوبات على القيادات الحوثية، برغم إلغاء قرار إدارة ترامب اعتبار الحوثيين “إرهابيين”. المواقف الإيرانية عبر الحوثيين وتلك المتعلّقة برفع السقف النووي إنما قرّبت إدارة بايدن من السعودية، فيما لم يكن ذلك في ذهنها قبل التصعيد. حتى روسيا دعت إيران الى عدم التصعيد مع أنها “مرّرت” مطالبة الأوروبيين باسترضاء إيران عبر تقديم الحوافز والإغراءات الاقتصادية والمالية الى طهران كي تتعاون في الملف النووي.

هذا يدخل في خانة المزايدات الروسية والتموضع في إطار 5+1، أي التفاوض على الصفقة النووية بين الولايات المتحدة والصين وروسيا وبريطانيا وفرنسا زائداً ألمانيا التي تهدّد بها طهران للتخويف من امتلاكها الأسلحة النووية.

القيادة الإيرانية تعي أن معظم الأوروبيين يريدون استرضاءها خوفاً من سلاحها النووي، وهي تريد إنجازاً ملموساً قبل الانتخابات التي ستكون حتماً لمصلحة المتشدّدين و”الحرس الثوري” الذي يصنع السياسة الخارجية الإيرانية. في اعتقادها، أن إدارة بايدن هي التي سترضخ أولاً، وأن المواقف الأوروبية تجميلية ما لم تقترن بإجراءات اقتصادية ترفع عنها عبء العقوبات، وأن رفع السقف سيخدم مواقفها في نهاية المطاف.

الأيام والأسابيع المقبلة ستساهم في توضيح القرارات الأميركية والرهانات الإيرانية. إنما مفيد جداً أن تكشف طهران عن طبيعة نظامها وفكرها وعقيدتها وأن تتشدّد في الملف النووي، وفي اليمن، وفي العراق ولبنان حيث مواقفها تدميرية للسيادة العراقية واللبنانية، وحيث أخذت الى الكشف عن أنيابها عبر التحريض والاغتيالات والتدخل بلا حياء. فليتفضل الاتحاد الأوروبي ويتبنّى مواقف جريئة في موضوع العراق ولبنان، ولتتفضل إدارة بايدن بتوضيح حدود صبرها ومعالمه على السياسات الإيرانية في الساحات العراقية واللبنانية ما دامت تترك الساحة السورية الآن للرعاية الروسية – الإسرائيلية.

شاهد أيضاً

مع ترمب… هل العالم أكثر استقراراً؟

العربية- محمد الرميحي الشرق اليوم– الكثير من التحليل السياسي يرى أن السيد دونالد ترمب قد …