بقلم: هشام ملحم – النهار العربي
الشرق اليوم- للمرة الثانية خلال سنة، برأ مجلس الشيوخ الرئيس السابق دونالد ترامب، هذه المرة من تهمة التحريض على احتلال مبنى الكابيتول في السادس من الشهر الماضي، ما أدى الى مقتل خمسة أشخاص من بينهم شرطي، وجرح 140 اخرين. ولكن عدم تجريم ترامب استنادا الى اعتبار تقني، وهو أنه لا يحق لمجلس الشيوخ محاكمة رئيس لم يعد في منصبه، لا يعني أن ترامب قد انتصر، لأن المحاكمة والأدلة القوية ضده، وحقيقة أن عدداً ضئيلاً من الشيوخ الجمهوريين دافعوا عنه أو برروا أفعاله، قد لطخت سمعته، إن لم يكن في أعين قاعدته الضيقة المتشددة التي لا تزال تؤمن به، بل في حكم التاريخ عليه.
عندما برأ مجلس الشيوخ ترامب في شباط (فبراير) الماضي بعد محاكمته الاولى، استخدم ترامب قرار التبرئة وكأنه وسام النصر، ولوح بنسخة من صحيفة “واشنطن بوست” مظهراً عنوانها: “تبرئة ترامب”، وسرعان ما بدأ بالتصرف وكأنه محصن ضد أي تهمة، وسارع للانتقام من منتقديه وخصومه. هذه المرة اصدر ترامب، المعزول في منتجعه في ولاية فلوريدا، والمحروم من استخدام شبكة تويتر، بيانا ندد فيه بمحاكمته، مدعياً انها “مرحلة أخرى من أكبر حملة اضطهاد في تاريخ بلدنا”.
وفي أول تعليق له على تبرئة ترامب، قال الرئيس جوزف بايدن “هذا الفصل الحزين من تاريخنا ذّكرنا ان الديموقراطية هشة، وأنه علينا أن ندافع عنها دائما، ويجب علينا أن نكون دائماً في حالة يقظة”. وأضاف بايدن في بيان صدر عن البيت الأبيض باسمه “يجب أن لا يكون هناك مكان للعنف والتطرف في أمريكا، وأن واجباتنا ومسؤولياتنا كأمريكيين، وخاصة قادة البلاد، هي أن ندافع عن الحقيقة وأن نهزم الاكاذيب”.
تبرئة ترامب الثانية تأتي بعد محاكمة أظهرت بالتفصيل عمق مسؤوليته عن اجتياح مبنى الكابيتول، الذي يسميه البعض كاتدرائية الديموقراطية الأمريكية، ولأن سبعة أعضاء من حزبه صوتوا لتجريمه، وهو أعلى رقم لمشرعين في مجلس الشيوخ يصوتون ضد رئيسهم خلال محاكمته في تاريخ الولايات المتحدة.
ويقتضي تجريم الرئيس تصويت أكثرية ثلثي أعضاء مجلس الشيوخ المئة. عندما حوكم أول رئيس في تاريخ البلاد، الديموقراطي أندرو جونسون في 1868 صوّت معه جميع أعضاء حزبه في مجلس الشيوخ. وعندما حوكم الرئيس الثاني، بيل كلينتون في 1999 صوّت معه جميع أعضاء حزبه في مجلس الشيوخ. وعندما حوكم دونالد ترامب للمرة الاولفيى في شباط (فبراير) 2020، صوت ضده عضو جمهوري واحد في مجلس الشيوخ هو السناتور ميت رومني. والمرة الثانية صوّت 7 أعضاء في مجلس الشيوخ على تجريم ترامب، عندما انضموا الى 48 سناتوراً ديموقراطياً وعضوين مستقلين، ليشكلوا أكثرية من 57 صوتاً مقابل 43 جمهورياً رفضوا تجريم ترامب، الذي يتطلب تصويت 67 عضواً لتجريمه. كما انضم 10 أعضاء جمهوريين في مجلس النواب الى الأكثرية الديموقراطية حين أحالوا ترامب على المحاكمة في مجلس الشيوخ عقب اجتياح الكابيتول.
زعيم الأقلية الجمهورية السناتور ميتش ماكونال صوّت على تبرئة ترامب، متذرعاً بالتبرير القانوني القائل إنه يحق لمجلس الشيوخ محاكمة الرئيس الأمريكي إذا كان يشغل منصبه، ولكن ليس بعد انتهاء ولايته. ولكنه بعد التصويت أدان ترامب بلغة أقسى من اللغة التي استخدمها فريق الادعاء الديموقراطي.
وقال ماكونال، الذي أيد ترامب وتعاون معه خلال 4 سنوات، ولكنه حملّه مسؤولية اجتياح الكابيتول، أن ترامب “تخلى عن واجبه بشكل مخز للغاية”، وتابع ماكونال الذي بدت كلمته اللاذعة وكأنها صادرة عن فريق الادعاء: ” لا يوجد هناك شك، أي شك، أن الرئيس ترامب، عملياً وأخلاقياً مسؤولاً عن استفزاز أحداث ذلك اليوم،” في إشارة الى السادس من كانون الثاني (يناير). وتابع: “لا يمكن لرئيس العالم الحر أن يقضي أسابيع وهو يصرخ أن القوى الخفية تسرق بلادنا، وأن يدعي بعد ذلك أنه فوجئ بأن الناس صدقوه وقاموا بأعمال متهورة”. إدانة ماكونال الإخلاقية لترامب تكتسب أهمية سياسية نظراً لمركز ماكونال القيادي في مجلس الشيوخ، ولأنها تعكس الخلافات العميقة داخل الحزب الجمهوري، بين الجناح التقليدي المحافظ في الحزب، وقاعدة ترامب الضيقة والصاخبة والتي يعلو فيها صوت المتطرفين والعنصريين والذين يؤمنون بنظريات المؤامرة الذين يرون في الرئيس السابق تجسيداً لما يؤمنون به.
وكان من اللافت أن الرئيس بايدن اقتبس في بيانه ما قاله السناتور ماكونال في إدانته الأخلاقية لترامب ” على الرغم من أن التصويت النهائي لم يؤد الى التجريم، الا أن جوهر التهمة لا يوجد خلاف حوله. وحتى الذين عارضوا التجريم مثل زعيم الأقلية الجمهورية ماكونال، يؤمن أن دونالد ترامب كان مذنباً” .
إدانة ماكونال الأخلاقية لترامب لم تكن الاستثناء، لا بل عكس موقفه بعض زملائه الجمهوريين في المجلس مثل شيلي كابوتو التي قالت إن “أفعال وردود أفعال الرئيس ترامب كانت مخزية، وسوف يحكم عليه التاريخ بقسوة”. وقال السناتور روب بورتمان: “الرئيس ترامب قال وفعل أشياء متهورة وحرض الرعاع” على اقتحام الكابيتول.
تجاهل الرئيس السابق ترامب في بيانه اجتياح الكابيتول، ولم يعرب عن أسفه للخسائر البشرية والمادية التي تركها وراءهم الرعاع من أنصاره، وجدد رغبته بمواصلة دوره السياسي في المستقبل حين أشار الى انه سيشارك مع انصاره أشياء كثيرة في الاشهر المقبلة. وأضاف: ” وأنا اتطلع قدماً لمواصلة مسيرتنا الرائعة معا.. ” ولكن مسيرة ترامب لن تكون سهلة لأنه فقد وسوف يفقد الكثير من نفوذه خارج البيت الابيض، وخاصة إذا بقي محروماً من استخدام وسائل الاتصال الاجتماعي، ولأنه يواجه تحديات قانونية ومالية سوف ترغمه على الانشغال بمعالجتها.
مالياً يواجه ترامب صعوبة كبيرة في جني الأرباح من منتجعاته وفنادقه، وعليه تسديد أكثر من 340 مليون دولار من القروض للبنك الألماني سوف تستحق في 2023 و2024. ولكن التحديات الخطيرة التي يواجهها ترامب هي قانونية حيث يواجه تحقيقات جنائية ناتجة عن محاولاته تقويض أو تزوير نتائج الانتخابات في ولاية جورجيا حين ضغط على المسؤولين عن إدارة الانتخابات للتلاعب بنتائج الانتخابات لصالحه، وفي العاصمة واشنطن، حول مسؤوليته عن اجتياح الكابيتول. كما هو معرض لدعاوى من قبل ضحايا اجتياح الكابيتول. هذا إضافة الى التحقيقات المتشعبة حول ضرائبه والتي تقوم بها محاكم مدينة نيويورك.
سوف يبقى ترامب لاعباً على المسرح السياسي في الولايات المتحدة في المستقبل المنظور، ولكنه سيجد نفسه في مواجهة خصوم جمهوريين في الكونغرس سوف يتحدونه للسيطرة على حزب جمهوري منقسم على نفسه، انسحب منه عشرات الالاف من الحزبيين احتجاجاً على اجتياح الكابيتول.