بقلم: جمعة بوكليب – الشرق الأوسط
الشرق اليوم – يوم الجمعة، الموافق 5 فبراير / شباط الجاري، ذاب الثلج في مدينة جنيف – سويسرا، فبان المرج في ليبيا. أخيراً، وبعد مخاض طويل، خرجت إلى الوجود حكومة وحدة وطنية ليبية، على يد قابلة أميركية اسمها ستيفاني ويليامز، نائبة رئيس بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا.
حتى وإن كانت الولادة قيصرية، فإنها فتحت صفحة جديدة، نأمل أن تكون بداية لحقبة جديدة، تقود إلى انتخابات رئاسية وبرلمانية في نهاية العام.
الآمال كبيرة، والمعنويات عالية، والقلوب لا تكف عن الدعاء والابتهال إلى الله بأن يهدئ النفوس، ويصلح ما فسد بين الإخوة من ود.
الأبواب المغلقة بأقفال حديدية فُتحت، الآن، على مصاريعها فجأة. والطريق التي تقود إلى وفاق وسلام مأمول بدأت تتضح. ولكن ليس من دون مطبات وعقبات وحواجز مترصدة، مثل رمال صحراء عرضة لهبوب أول ريح، كي تتحرك وتخفي ما وجد من علامات لتوقف المسيرة.
الليبيون فعلوا ما هو مطلوب منهم، وعلى الوجه الأصح. والأمم المتحدة، بقيادة فريق بعثتها في ليبيا، لم تبخل بجهودها. الآن، جاء دور المجتمع الدولي للقيام بمهامه المنوطة به، بلجم جميع الأطراف الخارجية المتورطة في الصراع الليبي، وتحذيرها من مغبة القيام بأي مناورات قد تفضي بمسار السلام وبالبلاد إلى العودة إلى الوراء. وحث تلك الأطراف على الجلوس إلى منضدة تفاوض، بحضور مراقبين من الأمم المتحدة، للتوصل إلى اتفاق، يوقف حمى التنافس على النفوذ والمصالح في ليبيا، ويلزمها بسحب المقاتلين المرتزقة، وإغلاق قواعدهم العسكرية.
الحرب الأهلية في ليبيا، منذ البداية، لم تكن بين أطراف محلية. بل هي حرب بالوكالة بامتياز. والجماعات المسلحة المحلية ما كانت لتوجد وتتقوى ما لم يأتها دعم سياسي ومالي وعسكري من الخارج وبشكل متواصل. والدول الخارجية المتورطة في الصراع ليست خافية على أحد، ومعروفة نواياها ودوافعها وأهدافها، وتتحرك بكل حيوية وحرية على المسرح، أمام أنظار العالم.
عقب إعلان نتائج التصويت النهائي في جنيف على القوائم المترشحة لرئاسة المجلس الرئاسي والحكومة، حرصتُ شخصياً، في اليوم الثاني، على متابعة ما نشر في وسائل الإعلام البريطانية المكتوبة من ردود فعل إعلامية، فلم يقابلني سوى تقرير قصير ويتيم. عدم الاهتمام البريطاني بالأوضاع في ليبيا، بدأ في التراجع والانكماش منذ فترة، مفسحاً المجال لدول أخرى. وعواصم الدول المتورطة في الصراع الليبي لم يأتِ من جهاتها سوى صمت مريب وحذر. وتبع ذلك، في الأيام التالية، ترحيب، من عاصمتين تحديداً، وبشكل فردي، وليس جماعياً. وما لم يصدر عنها جميعاً بيان ترحيب بالتسوية الأخيرة، وبحكومة المصالحة الوطنية، يظل القلق ممسكاً بزمام النفوس.
السيدة ستيفاني ويليامز، ربحت الجولة الأولى، من حرب السلام، ونأمل – قبل أن تنتهي مهامها في نهاية الشهر الجاري، ووصول مبعوث جديد – أن تتمكن من تثبيت وضع القطار على قضبان قوية. ما يتردد في وسائل التواصل الاجتماعي من أخبار عن إشكاليات حول مكان اجتماع مجلس النواب لمنح الحكومة الجديدة القادمة ورئيسها الثقة، من الممكن جداً التغلب عليها، عبر الاستفادة من التقنية الحديثة، ومن تجارب تطبيقها في البرلمانات الأوروبية خلال أزمة الوباء. وإذا كان من الممكن على البرلمان البريطاني أن يعقد جلساته بحضور عدد محدود من النواب، في حين أن الأغلبية تشارك بالحضور عبر وسائل التقنية الحديثة، فإنه وفقاً لذلك يكون من الممكن أن ينعقد البرلمان الليبي في مدينة بنغازي، ويحضر الجلسة كامل الأعضاء في مختلف أماكن وجودهم في ليبيا أو خارجها، عن طريق مواقع التواصل الإلكترونية التي ظهرت واشتهرت مؤخراً. ولا عذر في ذلك، لمن يصر على انعقاد الجلسة بكامل الأعضاء فعلياً. إذا توفرت النيات الطيبة، لا تغيب الحلول. وإذا وضع الجميع نصب أعينهم مستقبل البلاد والعباد، وتخلصوا من أنانياتهم ومنافساتهم، يكون بالمستطاع على الحكومة الجديدة ورئيسها القيام بمهامهم، وتوحيد البلاد تحت قيادة واضحة.
يأتي بعد ذلك في المرتبة ما يمكن للمجلس الرئاسي والحكومة تنفيذه من برامج سياسية واقتصادية، وهي البرامج التي أعلن عنها رئيس الحكومة الجديد السيد عبد الحميد الدبيبة، وتعهد بتنفيذها، آخذين في الاعتبار أن رئيس الحكومة الجديدة رجل أعمال ناجح بدون خبرة سياسية. ونجاحه في مهمته الصعبة يتوقف، أولاً وأخيراً، على ما يبديه من حزم في التعامل مع الجماعات المسلحة في جميع أنحاء البلاد، ويحرص على ألا يكون كسلفه رهينة لهم، ويوقف نهب المال العام، ويشدد على استتباب الأمن وسيادة القانون.
“الاستقرارُ أساسُ العمران”، كما يؤكد في مقدمته عالم الاجتماع العربي ابن خلدون، ومن دونه لا يمكن لشعب أن يمارس حياته، ويحقق وجوده بلا خوف. ورئيس المجلس الرئاسي ونائباه ورئيس الحكومة الجدد، عاشوا وعرفوا معنى غياب الاستقرار وتأثيره السلبي على حياة الناس وعلى مصادر عيشهم، ومستقبل أولادهم. ونتمنى على الله أن يمكنهم من الوقوف بأقدام ثابتة على أرض صلبة، من العزم والصبر وقوة الإرادة، ليعيدوا لبلادهم ولشعبهم ما فقدوه من أمن، وما يتمنونه من سلام.