بقلم: محمد قواص – النهار العربي
الشرق اليوم- يسعى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى تعظيم دور فرنسا في أوروبا والعالم، كما الاهتداء إلى مساحة لها في الشرق الأوسط. يرى الرئيس الشاب أن التحوّلات الدولية، لا سيما في تشوش الموقع الأميركي وديناميات الدور الصيني والروسي، من شأنها أن تتيح لبلاده لعب دور مفقود داخل آليات العمل الدولي. ولا تبتعد رؤى ماكرون وقراءته لخرائط العالم عن طموحاته الشخصية في تأكيد مكانته وتثبيتها بين زعماء الاتحاد الأوروبي (خصوصاً بعد انسحاب أنجيلا ميركل)، كما تجديد حضوره المقبل داخل الإليزيه في الانتخابات الرئاسية العام المقبل.
نجح ماكرون في إبراز موقف فرنسي بدا قائداً للسياسة الأوروبية حيال تركيا إلى درجة أن السجال أخذ طابعاً شخصياً مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان. تحصّن موقف باريس بتحالفات متقدمة مع مصر واليونان وقبرص، انضمت إيطاليا لاحقاً إليها، استدرجت إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب لمغادرة الموقع الوسطي المساير لأنقرة والإعراب عن مواقف داعمة لأوروبا.
والحال أن رشاقة ماكرون في شرق المتوسط امتدت باتجاه لبنان، في سعي لتكريس نفوذ ينهل من تاريخ عتيق بين البلدين. والظاهر أن الرجل الذي قفز إلى بيروت بعد يومين على كارثة مرفئها في آب (أغسطس) الماضي، أراد الاستفادة من درامية الكارثة وانفضاح أمر المنظومة السياسية الحاكمة لاستسهال فرض أمر واقع فرنسي على البلد وحكامه.
اعتمد ماكرون على فرضية مفادها أن استمرار باريس في التعامل مع “حزب الله” وعدم إدراجه على لوائح الإرهاب، على عكس ما فعلت واشنطن وبرلين ولندن وعواصم أخرى، من شأنه تسهيل حضور في لبنان لا تستطيعه دول أخرى. كما توقع أن يساهم موقف واشنطن المتحفظ على المبادرة الفرنسية في دفع الأطراف السياسية في البلد، بما فيها “حزب الله”، إلى الالتفاف حول تلك المبادرة وتعزيز تمددها.
والظاهر أن رجل فرنسا القوي استبسط المعضلة اللبنانية وراح يتعامل معها كما تعامل مع أزمة “السترات الصفر” في بلاده، في تجواله على البلديات الكبرى والتحاضر في كبار المنتخبين والوجاهات المحلية. والظاهر أيضاً أنه وفريقه مارسا تذاكياً كان يطمح إلى التسلل نحو البلد من بوابة الكارثة ومن بوابة مراعاة مصالح إيران ونفوذ حزبها في لبنان.
لم تستسغ طهران اندفاعة ماكرون نحو لبنان. إثر زيارته الأولى، أرسلت طهران وزير خارجيتها محمد جواد ظريف ليندد بالمساعدات الغربية ويشكك بمسعى فرنسا ويصبّ ماءً بارداً على حماسة رئيسها المفرطة. لسان حال طهران أن بيروت هي واحدة من العواصم الأربع التي سبق أن أعلنتها داخل مساحة الهيمنة الإيرانية في المنطقة، وأن لا مكان لنفوذ آخر طموح منافس. فعلت طهران أكثر من ذلك، فهي التي تقف مانعاً أمام تشكيل حكومة وفق معايير المبادرة الفرنسية حتى لو أتى ظاهر الموانع من الثنائي عون – باسيل.
على أن ماكرون متخبّط في السبيل الناجع للعب دور في منطقة تنشط داخلها طهران. زار الرئيس الفرنسي بغداد قادماً من بيروت، متحرياً مدّ شعاع حركته داخل ما يعتبر سياقاً إقليمياً إيرانياً، معتقداً تمتعه بتساهل من طهران لرد قسوة واشنطن عليها. غير أن فرنسا تكتشف هزال مساعيها ومحدودية مناوراتها داخل السجال القديم الجديد بين إيران والولايات المتحدة. وإذا ما كانت باريس تعوّل على تواطؤ طهران، فإن تطوّر موقف ماكرون، لجهة اقترابه من موقف بايدن المطالب بالتزام إيران الكامل بالاتفاق النووي، ودعوته الى اتفاقات أخرى مع إيران تشارك فيها السعودية ودول أخرى، يطرح أسئلة حول آليات الدور الوظيفي الذي يتوسله لبلاده في المنطقة.
تصف صحيفة Tehran Times انعطافة باريس بأنها “ترامبية بوجه فرنسي”. ما أطلقه ماكرون ووزير خارجيته جان إيف لودريان يمثل انعطافة صقورية تجاه إيران. على هذا تقترب طهران من موقف أنقرة في رفض الدور الذي تلعبه فرنسا ورئيسها. والمفارقة أن موقف ظريف الذي دعا الاتحاد الأوروبي الى لعب دور الوسيط بين بلاده والولايات المتحدة يتعارض مع موقف المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية (أي المتحدث باسم ظريف) في رفض العرض الفرنسي للوساطة وفي رفض دعوة ماكرون الى مشاركة أعضاء جدد (السعودية) في اتفاق محدد الأعضاء (مجموعة 5+1). والمفارقة أيضاً تكمن في إعلان ماكرون عن إنعاش مبادرته وعزمه على زيارة لبنان قريباً، في وقت يبدو فيه مشتبكاً مع طهران.
والحال أن موقف إيران ليس جديداً، بل إن في تجارب باريس ما يمكن أن ينقض أمر واقع إيراني في المنطقة لا يبدو حتى الآن أن هناك معطيات تحضر للانقلاب عليه. تسعى طهران الى إحياء الثنائية الإيرانية الأميركية المباشرة التي نشطت عبر قناة مسقط عشية إبرام الاتفاق النووي. أغلب الرعاة الأميركيين لتلك القناة هم فاعلون حالياً داخل الإدارة الأميركية الجديدة، وبالتالي فإن إيران أكثر تعويلاً على مفاوضات مباشرة بين طهران وواشنطن لا تحتاج، وفق ما تراه، إلى وساطات ماكرون، خصوصاً إذا ما كان في ملاحقها جرّ دول في المنطقة للجلوس الى طاولة المفاوضات الدولية المقبلة مع إيران.
لا ترتاح إيران الى دعوة بايدن الشركاء ليكونوا جزءاً من أي مفاوضات مقبلة مع طهران. ربما على ماكرون أن يستطلع جيداً من واشنطن شكل هذه الشراكة وموقعها في هذا السجال. ذلك أن طهران التي تشهر أوراقها في العراق وسوريا ولبنان واليمن أمام الإدارة الأميركية، تقدّم نفسها دولة نفوذ كبرى في الشرق الأوسط تتحرّى التعامل الندّي المباشر مع دولة النفوذ الكبرى في العالم. على هذا لا ترى طهران في دول الخليج شركاء على طاولة مفاوضات، بل منطقة نفوذ تملي عليها قواعدها. وعلى هذا أيضاً لا تريد طهران ماكرون رسولاً لها مع واشنطن بل ملحقاً، كما في اتفاق 2015، في أي تفاهمات ثنائية مباشرة بينها وبين واشنطن.
إيران تنهل تكتيكاتها من ترسانة تقليدية معروفة خبرتها لإنتاج اتفاق فيينا. يبقى أن على فرنسا وماكرون والحلفاء التخلي عن تمارين التجريب وتقديم نسخة عمل دولية تقنع طهران بأن العالم قد تغيّر.