بقلم: سالم الكتبي – صحيفة إيلاف
الشرق اليوم- في أول كلمة رئيسية بعد توليه منصبه في العشرين من يناير الماضي، وعد الرئيس الأمريكي جو بايدن بعهد جديد بعد طي صفحة السياسة الخارجية في عهد سلفه دونالد ترامب، قائلا في أولى كلماته الدبلوماسية بعد توليه المنصب إن “أمريكا عادت” على الساحة العالمية. وقال بايدن “لابد للقيادة الأمريكية أن تواجه هذه الفترة الجديدة من تزايد النزعة السلطوية، بما في ذلك تنامي مطامح الصين لمنافسة الولايات المتحدة وعزم روسيا على الإضرار بديمقراطيتنا وإفسادها. لا بد لنا أن نواجه الفترة الجديدة… فترة تسارع التحديات العالمية من الجائحة إلى أزمة المناخ إلى الانتشار النووي”.
كان واضحاً في هذه الكلمة المفتاحية للسياسة الخارجية الأمريكية تمسك الرئيس بايدن باستعادة صورة الولايات المتحدة وتمسكها بالدفاع عن هذه الصورة لاثبات قوة النموذج الديمقراطي الأمريكي الذي تعرض لاختبار صعب إثر الهجوم على مبنى “الكابيتول” من جانب بعض أنصار الرئيس السابق ترامب في أوائل يناير الماضي، لذا نلحظ أن الرئيس بايدن كرر في خطابه عن قضايا وموضوعات ترتبط بالنهج الديمقراطي وما أسماه بالتيار السلطوي، حتى أنه ركز في علاقة الولايات المتحدة مع روسيا على هذه الفكرة، ساعياً إلى دحض الشكوك الدولية حول التزام الولايات المتحدة بالقيم الديمقراطية، ومن ثم اقناع الرأي العام الأمريكي بضرورة التزام نهج دولي صارم دفاعاً عن الرخاء الأمريكي، أو كما قال “الاستثمار في دبلوماسيتنا ليس شيئا نفعله لأن هذا هو الصواب للعالم وحسب، بل نفعله كي نحيا في سلام وأمان ورخاء، نفعله لأنه يصب في مصلحتنا الذاتية”، وهنا يجب ملاحظ اختيار بايدن لوزارة الخارجية الأمريكية كمان لالقاء أول كلمة رئيسية له في بداية توليه المسؤولية، وهذا يعني اعتماده ورهانه الكبير على الدبلوماسية والدبلوماسيين كرأس حربة للسياسة الخارجية الأمريكية، وهو نهج أسماه بايدن بـ”القيادة من خلال الدبلوماسية”، في نهج يختلف تماماً عن نهج سلفه ترامب الذي لم يعتمد كثيراً على الآلة الدبلوماسية في التعامل مع القضايا والأزمات.
كان بايدن في كلمته أيضاً حريصاً على اثبات مكانة التحالفات الأمريكية ضمن استراتيجيته، كي يطوي تماماً صفحة “أمريكا أولاً” التي اعتمدها ترامب وفقز خلالها على معظم تحالفات الولايات المتحدة والتزاماتها حيال الحلفاء، ولاسيما الأعضاء في حلف الأطلسي، وفي ذلك قال بايدن “التحالفات الأمريكية هي أهم بند في رأسمالنا، والقيادة من خلال الدبلوماسية تعني الوقوف جنبا إلى جنب مع حلفائنا وشركائنا الرئيسيين مرة أخرى”، وهذا الأمر مهم ليس فقط بالنسبة لحلفاء الأطلسي وبقية حلفاء الولايات المتحدة، ولكن أيضاً بالنسبة لشركاء استراتيجيين آخرين مثل دول مجلس التعاون، التي لم تتأثر سلبياً بنهج ترامب حيال الحلفاء، ولكنها ستكون بالتأكيد في وضع أفضل في ظل التزام الرئيس بايدن بالتزامات بلاده حيال شركائها وحلفائها الاستراتيجيين.
حرص بايدن أيضاً عند الحديث عن المنافسين من القوى الدولية أن يؤكد العودة إلى النهج التقليدي الأمريكي القائم على الدبلوماسية في التعامل مع الخصوم والمنافسين، قائلاً “نحن بلد يأتي أفعالا كبرى. الدبلوماسية الأمريكية تنجح في هذا وإدارتنا على أهبة الاستعداد لحمل الشعلة وتولي القيادة من جديد”، ولم يغفل جوانب الخلاف مع الصين التي وصفها بأخطر المنافسين، ولكنه قال أيضاً “لكننا مستعدون للعمل مع بكين عندما يكون هذا في مصلحة أمريكا”.
ومن بين أكثر ما يهمني ـ كمراقب ـ في كلمة الرئيس بايدن أنها اثبتت صحة توقعي حول سياسة الرئيس بايدن بشأن إيران، فهو لن يمنح الملالي هامش المناورة الذي يأملون، ولن يهادن أو يتبني مساراً تصالحياً كما فعل أوباما، بل إنني أرى أنه سيمضي في نهج صارم حازم، ولكن بتكتيك دبلوماسي مختلف تماماً عن سلفه ترامب ، وهو ما تحدث عنه بايدن في مقال رأي نشره في 13 سبتمبر الماضي في موقع شبكة “سي إن إن” قائلاً إن “هناك طريقة أكثر ذكاءً لتكون صارماً مع إيران”.، ويبدو لي أن لديه رؤية واضحة يريد أن ينتهي إليها عند الجلوس على مائدة التفاوض مع الملالي بدءاً بتوسيع الإطار التفاوضي وصولاً إلى تحميل هذا النظام مسؤولية مقتل اثنين من الجنود الأمريكيين في هجوم صاروخي إيراني على قاعدة “التاجي” العراقية في مارس من العام الماضي. ومن الواضح كذلك أنه لن يتعامل مع هذا الملف المعقد بشكل انفرادي، بل من بالتنسيق مع حلفاء وشركاء أوروبيين وشرق أوسطيين، فهو حريص بشكل لافت على فكرة العمل مع الحلفاء، واعتقد أن هذا سيكون نهجه الثابت خلال السنتين الأوليين لرئاسته على الأقل حتى يتجاوز الشكوك المثارة حول الانعزالية الأمريكية التي خيمت خلال فترة رئاسة ترامب.
في المطلق، تبدو كلمة بايدن بالنسبة لي، عودة للدبلوماسية التقليدية الأمريكية، خصوصاً تلك التي ينتهجها الحزب الديمقراطي، ولاسيما الجيل القديم، فالحديث تردد بشكل لافت عن الانحياز لنشر قيم الديمقراطية وحقوق الانسان والتجارة الحرة والتعاون الاقتصادي حول العالم وتأثير ذلك كله على المواطن الأمريكي في الداخل، وهو مااختصره بايدن في إشارته إلى أن أمن الأمريكيين يبدأ من قدرة على بلادهم على مساعدة الغير في الحياة، وعطاء الشعوب فرصة لتحيا، وهي في الحقيقة أفكار تتماس بشكل ما مع أفكار الرئيس الأسبق أوباما، ولكنها تمثل في المجمل قناعات تيار عريض من نخب الحزب الديمقراطي.