بقلم: د. ماجد السامرائي – العرب اللندنية
الشرق اليوم– كانت سياسة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب المزاجية وسعيه المتواصل إلى انتهاك دور المؤسسات العريقة في الولايات المتحدة الدولة الديمقراطية الأولى في العالم أهم عنصر لفوز جو بايدن بالبيت الأبيض.
ترامب هو الرئيس الثالث الذي يتعرّض للمحاكمة داخل الكونغرس بسبب تحريضه للغوغائيين العنصريين على اقتحام مبناه في السادس من يناير 2021، سبقه الرئيس نيكسون الذي استقال قبل عزله بسبب فضيحة ووترغيت عام 1974 المتعلقة بانتهاكات الأمن القومي الأميركي، وكذلك بيل كلينتون بسبب فضيحة مونيكا.
قبل بايدن كان العراق ميدانا لإظهار البطولة في شن الحرب والتدمير لأغراض الزعامة بالنسبة إلى ثلاثة رؤساء أميركيين خلال فترة رئاستهم؛ جورج بوش الأب في حرب تحرير الكويت عام 1991، وابنه بوش في حرب احتلال العراق عام 2003 على فرضية كاذبة، في حين حوّل الرئيس كلينتون أنظار أعضاء الكونغرس عن محاكمته بفضيحة مونيكا عام 1998 عبر توجيه ضربات صاروخية مدمّرة إلى بغداد دون مبرّر سوى حجة احتواء نظام صدام حسين، ثم ليصدر الكونغرس في ذلك العام قانون تحرير العراق لصالح المعارضة التي قادها أحمد الجلبي. أما باراك أوباما فاستفاد من قتله لأسامة بن لادن لتجديد رئاسته عام 2012.
الشأن المحلي الأميركي هو الذي منع التجديد لترامب وجاء بالرئيس بايدن الذي يسعى للإيحاء إلى الأميركيين بأنه يقود عبر إجراءاته العاجلة حركة إعادة السكة التقليدية للسياسات الأميركية الداخلية والخارجية عبر قرارات وإجراءات في ميادين الهجرة واللجوء والعلاقات الدولية مع المكسيك والمنظمات العالمية والدول الحليفة في أوروبا والشرق الأوسط في تعزيز لمنهج الإدارة الديمقراطية في عهد أوباما.
اختار بايدن مقرّ وزارة الخارجية الأميركية لتكون مكان خطابه الأول الذي أعلن من خلاله الملامح الأولى لسياسة الولايات المتحدة الخارجية بعد مقدمات خاطفة أعلنها وزير خارجيته الجديد أنتوني بلينكن.
لا توجد متغيرات دراماتيكية في العلاقات الدولية لكن بايدن قدّم رسالة لتأخذ الولايات المتحدة مكانها في قيادة العالم من خلال الدبلوماسية الهادئة، رغم أن سلفه ترامب لم يشن حربا بل سعى إلى سحب الجيوش من مناطق متعددة كألمانيا وأفغانستان والعراق. لكن ما ميّز سياسة ترامب هو خروجه من الاتفاق النووي وتنفيذ سياسة الضغط القصوى ضد النظام الإيراني بتشديد العقوبات، وهذا ما ربطها تلقائيا بالوضع في العراق كساحة صراع.
البلد العربي الذي اختاره بايدن هو اليمن كمنطقة حرب إقليمية مركبة، فيها طرفان رئيسيان هما السعودية وحلفاؤها الخليجيون من جهة، وإيران ووكلاؤها الحوثيون من جهة أخرى. لا شك أن لواشنطن دورا سياسيا هاما في إنهائها، ليس بتعطيل المساعدات اللوجيستية للطرف السعودي والإماراتي، وإنما في سياسة وبرنامج يأتي عبر حوار مع الطرف العربي الداعم للشرعية اليمنية ووفق سياسة لا تساوي بين المحُرّض والمعتدي، بين القاتل والضحية، بين الشرعية ونقيضها.
غابت سوريا والعراق عن خطاب بايدن، مع أن في سوريا حربا بالوكالة تقودها الميليشيات الإيرانية بالتعاون مع الرئيس بشار الأسد ضد الشعب السوري الأعزل، وكأنما ببايدن يريد إعادة الذاكرة لسياسة أوباما التي استدار من خلالها عن “خطه الأحمر” الذي أعلنه كمشروع لتغيير نظام دمشق لصالح شعب سوريا المُهجّر والمظلوم منذ عشر سنوات.
لماذا غاب العراق عن خطاب بايدن، وكيف فسّر العراقيون سياسيون ونخب وناس من الشعب هذا الغياب المقصود؟
هناك ثلاثة أصناف من العراقيين تعاملوا مع تغييب بايدن للعراق في بيانه الدبلوماسي الأول. الصنف الأول: المُغتبط الفرح لعدم ذكر العراق، لأن واشنطن الجديدة قد سلّمت العراق للولي الفقيه في طهران، وهذا الصنف جاهل أو مُسيّر يمثله قادة ورموز أحزاب شيعة السلطة وميليشياتها الولائية الذين حكم عليهم الزمان وأولياؤهم في طهران ألا ينطقوا بموقف أو رأي في شأن العراق إلا بتعليمات ممهورة منهم. وهؤلاء ليسوا بقادة لشعب أو سلطة إنما هم موظفون بشركة استثمارية لديهم عمولات تنتهي صلاحيتها بانتهاء هذه السلطة، ولن يغفر جرائمهم شعب العراق الصابر.
أما الجهلة الموالون من صفوف هذا الصنف من كتبة ومعلّقين في قنوات اتحاد التلفزيونات الإيرانية وحملة السلاح الموجّه لصدور العراقيين، فهؤلاء معذورون مساكين همّهم الوحيد التنعّم بخير البلاد عبر الولاة المتنفّذين.
الصنف الثاني: عموم العراقيين المظلومين بحصار الإدارات الأميركية وبالاحتلال الغادر لهم منذ عام 1991 وإلى حد اليوم، والمحترقين بنار السلاح الأميركي وسلاح الميليشيات حاليا، والحرمان من العيش بكرامة وعدالة. مشاعر الخيبة تُخيّم على هؤلاء الناس، لا يجدون في الولايات المتحدة مهما تبدّل الرؤساء خيرا لهم. تلك العواطف والمشاعر هي الأكثر صدقا من غيرها.
الصنف الثالث: هم النخب الفكرية والثقافية الوطنية وعموم المدنيين من الناشطين في ثورة أكتوبر من خارج سلطة الإسلام السياسي الشيعي والسني، وأغلب هؤلاء لديهم رؤى سياسية معتمدة على قراءات ومتابعات ومعارف ميدانية بكيفية صناعة القرار السياسي الأميركي.
تعتقد هذه النخب، ونحن من بينها، بأن العراق أصبح منذ احتلال العام 2003 رهينة بيد إيران، وهو ضحية صفقة واشنطن وطهران التي لم تُبطل مفاعيلها بل خفّت خلال فترة حكم ترامب، وتتجدد حيويتها الآن في عهد بايدن.
من هنا يجمع فريق الوعي السياسي العراقي هذا على امتداد الرقعة الجغرافية داخل العراق وخارجه على ضرورة التعاطي بوعي غير متشنج وبعيدا عن العاطفة مع سياسة بايدن تجاه الملف العراقي التي لم يعلنها في بيانه الرئاسي الأول، لكنه ترك مهمة بلورة مواقف وقرارات سياسية جديدة بشأنها إلى معاونيه الدبلوماسيين وقادة السياسة والخبراء في إدارته، سواء كانوا من بين المتعاطفين في العودة إلى الاتفاق النووي مع إيران أو أولئك الذين سبق لهم أن اشتغلوا بمعيّته في العقدين الأخيرين.
التصورات السياسية الحكيمة تقول بضرورة عدم التسرّع في الحكم على سياسة بايدن استنادا إلى موروث علاقاته السابقة مع السياسيين الشيعة والأكراد خلال العقدين الماضيين. فالمتغيرات الجيوسياسية هي الحكم في القرارات السياسية، وبايدن قبل غيره يعلم هذه الحقائق، إن كان وفيا لمهنيته السياسية، حتى وإن فرح هؤلاء الساسة العراقيون باحتمال انعكاس ذلك الموروث على مواقف قد تنفعهم اليوم.
من المفيد سياسيا أن بايدن لم يتعجّل في إعلان موقفه أو إصدار قراراته بشأن الملف العراقي خلال خطابه الأول الأسبوع الماضي، لكن من المهمّ والمفيد أيضا ألا تقتصر تقارير واستشارات معاونيه التي ستوضع على طاولة البيت الأبيض على طرف واحد هو الحاكم الآن في العراق، وما جناه حكمهم من انهيار للبلد مُجمَع عليه عالميا وعراقيا.
يجب على هؤلاء المستشارين الاستماع إلى آراء الطرف المهمّ المعارض للسلطة الحاكمة من بين النخب السياسية العراقية المُطاردة داخل العراق ومن بين الناشطين المدنيين وثوار أكتوبر، وكذلك المقيمين في الخارج من الوطنيين السياسيين المعروفين بولائهم لوطنهم، حتى لو كانت لديهم تحفظاتهم السابقة على النفوذ الأميركي في العراق، لكن آراؤهم ستساعد على ولادة موقف متوازن سيخدم العراق والمصالح الأميركية ويُعَدّل من سياستها التي خلّفت كل هذه الفوضى والانهيار.