الشرق اليوم- ربما تصطدم كل مبادرات بايدن الكبرى برمال العراقيل الجمهورية، لكن من المرجح أن يحرز نجاحا أكبر من الساسة الأكثر بهرجة وراديكالية، فبايدن يعرف كيف يعمل النظام على وجه التحديد، وربما يكون القائد الذي تحتاج إليه أمريكا الآن بالضبط.
من السهل أن نبخس جو بايدن قدره، فقد استخف بعض الأشخاص على اليسار بالرئيس الأمريكي الجديد على أنه خادم مخلص للحزب، وانتهازي، ومن بقايا مؤسسة فاسدة ومحطمة، فحَـمَـل مقال منشور في المجلة المحافظة “ناشيونال ريفيو” العنوان الرئيس: “جو بايدن.. تجسيد للمقدرة المتواضعة”، وكتب المقال اليميني المعجب بالرجال العظماء كونراد بلاك، مالك الصحف سابقا والمحتال الـمُـدان.
الواقع أن بايدن، حتى الآن، ليس رجلا عظيما، ومع ذلك، من غير الممكن أن نستبعد بسهولة شخصا عمل لمدة أربعة عقود من الزمن في عرين السياسة البغيض في واشنطن، وانتُـخِـب رئيسا وهو في عمر الثامنة والسبعين، وهو في أقل تقدير سياسي شديد البراعة.
بايدن ليس مفكرا لامعا ولا قائدا بطوليا، وهو أيضا لا يتمتع بقدر كبير من الكاريزما، وهو أمر مريح بعد أربع سنوات من سوء الحكم المذهل في عهد دونالد ترامب، وإذا كان بايدن اعتنق أي فكرة أصلية، فمن المؤكد أنه نجح في إخفائها، حتى أنه في حملته الرئاسية عام 1988 سرق من خطاب ألقاه السياسي البريطاني نيل كينوك، لكن بايدن لم يُـلق باللائمة على كاتب خطاباته، كما فعل ترامب وزوجه ميلانيا عندما حدثت هفوات مماثلة.
السؤال هو ما إذا كانت مصالح الديمقراطيات الليبرالية يخدمها على أفضل نحو قادة لامعون أو أبطال، ربما تبدو مثل هذه الشخصيات مرغوبة بشكل خاص في الأوقات العصيبة، ولكن كما قال الكاتب الأميركي جور فيدال ذات يوم: “القادة العظماء يصنعون حروبا عظيمة”، الواقع أن المثقفين من ذوي الأفكار العظيمة من الممكن أيضا أن يرتكبوا أخطاء مروعة، ولا يتقبل كثيرون منهم النقد عن طيب خاطر من جانب الأشخاص الذين يرفضون رؤية الأشياء كما يرونها هم. الواقع أنهم ليس لديهم إلا أقل القليل من الوقت لمن هم أقل منهم شأنا على المستوى الفكري، لكن الساسة الناجحين يجب أن يتحملوا الحمقى بسرور، فهذا جزء من وظيفتهم.
غالبا ما يميل الأشخاص الذين يؤيدون الثورات إلى احتقار الديمقراطية الليبرالية بسبب تواضعها المتصور، وقد لخص المحامي الفرنسي الراحل جاك فيرجيس، الذي دافع عن الإرهابيين السياسيين اليساريين، هذا الموقف، فقال: “منذ أن كنت طفلا، شعرت بالانجذاب إلى العَـظَـمة… إلى فكرة الـقَـدَر لا السعادة، فقد شوهت الديمقراطية الاجتماعية السعادة في أوروبا.
المقصود هنا واضح، فالسعادة تشتمل على جانب متواضع، عكس ما اعتاد الرومانسيون على تسميته “العاصفة والاندفاع”، لكن “السعي وراء السعادة” متأصل في حمض أمريكا النووي، وقد كرسه توماس جيفرسون في إعلان الاستقلال، ولعل هذا هو السبب وراء احتقار الثوار من اليمين واليسار الولايات المتحدة في كثير من الأحيان.
من المؤكد أن هناك بعض الأوقات حيث تحتاج الديمقراطيات إلى أبطال، إذ لم يكن نيفيل تشامبرلين، المحافظ المنتمي إلى التيار السائد، والذي لم يكن واسع الخيال، وكان رجلا يميل إلى التسوية والتنازل، القائد الذي يحتاج إليه بلده في مواجهة هتلر في عام 1940. في وقت السِـلم، كان تشامبرلين رئيس وزراء ناجحا، في حين كان ونستون تشرشل يُـعَـد ثرثارا لا يمكن الاعتماد عليه، ولكن في مايو 1940، عندما لم تكن بريطانيا مستعدة لخوض حرب مع ألمانيا النازية، كانت البلاد في احتياج إلى رومانسي شرس مثل تشرشل لإلهام شعبها بروحه البطولية.
لكن مثل هذه الأوقات نادرة، ومن المؤسف أن كثيرين من رؤساء الولايات المتحدة في فترة ما بعد الحرب اختاروا محاكاة تشرشل لا تشامبرلين، الأمر الذي أدى في بعض الأحيان إلى حروب حمقاء، وإن السعي وراء السعادة نادرا ما يُـخـدَم من قِـبَـل الباحثين عن المجد العسكري والعظمة الوطنية، بل يخدمه على أفضل نحو قائد مثل بايدن.
ولكن ربما نعيش الآن واحدة من تلك اللحظات النادرة التي تتطلب البطولة والأفكار الكبرى، كما قال بايدن في خطاب تنصيبه، إننا نواجه مخاطر متعددة: الجائحة، والأزمة الاقتصادية الحادة، والافتقار العام إلى الثقة في المؤسسات الديمقراطية، ثم هناك صعود زعماء الدهماء الشعبويين اليمنيين بقوة في العديد من القارات. يعتقد كثيرون من سكان الولايات المتحدة المعرضين لوابل من الدعاية الخبيثة، أن بايدن سرق الانتخابات.
في بعض الأحيان، يُـقارَن الرئيس الـمُـنَـصَّـب حديثا بفرانكلين ديلانو روزفلت، ويعتقد كثيرون من أنصاره، عن حق في اعتقادي، أن الوقت حان لصفقة جديدة منقحة وإصلاحات سياسية جوهرية، إذ يتركز قدر كبير من المال في أيدي عدد قليل جداً من الناس. وفي السنوات الأربع الأخيرة سُـحِـق الكثير حتى لم يعد من الممكن أن نتصور أن الولايات المتحدة قادرة ببساطة على العودة إلى ما كانت عليه من قبل.
في بعض النواحي ستكون مهمة بايدن أصعب من مهمة روزفلت، فعلى الرغم من أن الأزمة الاقتصادية كانت أسوأ في ثلاثينيات القرن العشرين، فإن روزفلت كان يتمتع بأغلبية كبيرة في الكونغرس، ولم يكن الحزب الجمهوري مستعبدا لعقيدة خطيرة. كانت الصفقة الجديدة إنجازا عظيما، ولكن على الرغم من الأجواء شبه الأرستقراطية التي كانت تحيط به، لم يكن روزفلت رجلا لامعا أو بطوليا، بل كان مثل بايدن مشغلا سياسيا بارعا.
ومثله كمثل بايدن، لم يكن روزفلت ثوريا بكل تأكيد، كانت مهمته تتلخص في إنقاذ الرأسمالية الأمريكية، كان مصلحا ومعالجا، ولم تتحقق الصفقة الجديدة بسبب عبقرية روزفلت أو بطولته، بل لأن عددا كافيا من الناس منحوه الثقة للتصرف من منطلق حسن النوايا.
هذا هو ما يتوقعه الناس على وجه التحديد من بايدن أيضا، إذ يتعين عليه أن ينقذ الديمقراطية الأمريكية من ويلات الأزمة السياسية، ولتحقيق هذه الغاية، يتعين عليه أن يستعيد الثقة بالنظام، لقد وعد بجعل البلاد أقل استقطابا، وإعادة اللياقة المدنية والصدق إلى الخطاب السياسي. في هذا المسعى، قد يتبين لنا أن افتقاره إلى الكاريزما هو أعظم مواطن قوته، فرغم كل ما يفتقر إليه من العَـظَـمة، فإنه يعوض عن ذلك بإضفاء جو من اللياقة.
ولكن هل يكون هذا كافيا لدفع عجلة التغييرات السياسية الضرورية؟ لن تعتمد الإجابة عن بايدن وحسب بطبيعة الحال، فربما تصطدم كل مبادراته الكبرى برمال العراقيل الجمهورية، لكنه من المرجح أن يحرز نجاحا أكبر من الساسة الأكثر بهرجة وراديكالية. الواقع أن بايدن، صاحب اليد العجوز، الذي يعرف كيف يعمل النظام على وجه التحديد- التسويات والتنازلات، والتربيت على الظهر، ولي الذراع، وتحمل الحمقى بسرور- ربما يكون القائد الذي تحتاج إليه أميركا الآن بالضبط.
ينبغي لنا أن نأمل هذا على الأقل، فعندما انتقل بايدن إلى المكتب البيضاوي، أزال تمثال تشرشل النصفي الذي عرضه ترامب في مكان بارز خلف المكتب، وهذه ليست بداية سيئة.