بقلم: د. عبدالله المدني – صحيفة البيان
الشرق اليوم- تذكرنا الاتفاقية التي أبرمتها إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب مع حركة طالبان في فبراير 2020 لحل المعضلة الأفغانية المستمرة بالصفقة التي عقدتها إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما مع النظام الإيراني حول المشروع النووي في عام 2015.
فكلتاهما أبرمتا دون إشراك جميع الأطراف ذات العلاقة في المحادثات. وهذه الأطراف، فيما يتعلق بالمعضلة الأفغانية، هي حكومة كابول الشرعية المعترف بها دولياً، بينما في صفقة النووي الإيراني، كان الطرف الغائب هو دول الخليج العربية المستهدفة من قبل إيران.
اعتراضنا من منطلق أن الإرهابيين يجب أن ينبذوا من المجتمع الدولي، لا أن يتم تشجيعهم وتلميعهم ومكافأتهم بدعوتهم إلى مؤتمرات وعقد صفقات معهم، لأن في ذلك إسباغاً للشرعية عليهم وتجاهلاً لما ارتكبوه من جرائم بحق شعوبهم وجيرانهم والأسرة الدولية، بل إن ذلك يعطيهم دفعة معنوية للمضي قدماً في أعمالهم الإرهابية.
وقد شهدنا كيف أن الصفقة الأوبامية مع طهران لم تثمر عن أي تغيير جوهري أو حتى هامشي لجهة لجم السياسات الإيرانية الخارجية القائمة على التوسع، بل إن طهران استغلت بنود الصفقة لتعزيز نفوذها الإقليمي وإنفاق ما حصلت عليه من أموالها المجمدة للإنفاق على التخريب والفوضى في الشرق الأوسط.
وبالمثل فإن الاتفاق مع حركة طالبان لم يؤد إلى أي انفراجات على الساحة الأفغانية، بل استغلت الحركة الانفتاح الأمريكي عليها لشن المزيد من الأعمال الدموية، ممنية النفس بالعودة إلى السلطة مجدداً للتحكم في رقاب الشعب الأفغاني. اليوم هناك إدارة جديدة في واشنطن تبدو حائرة في كيفية التعامل مع ما ورثته من إدارة ترامب فيما خص أفغانستان.
فهل تنفذ ما وقعته إدارة ترامب مع طالبان، وتسحب من أفغانستان قواتها البالغ تعدادها 2500 عنصر بحلول مايو المقبل كما هو مقرر، وتترك هذا البلد سييء الحظ لمصيره القاتم، أم تسعى لتأجيل عملية الانسحاب، أم تجعل هذه العملية أبطأ وأكثر مسؤولية؟وتبدو حيرة ساكن البيت الأبيض الجديد جو بايدن حول الملف الأفغاني مشابهة تقريباً لحيرته إزاء ملف إيران النووي.
فهو لئن صرح بأن بلاده لن تسمح لطهران بالتحول إلى دولة ذات مخالب نووية أو باليستية، إلا أنه يبدو أقرب إلى التزام سياسة محورها التمسك بالصفقة التي عقدها رئيسه السابق أوباما، مع إجراء تعديلات عليها.
والشيء نفسه يمكن أن يقال حول اتفاقية فبراير مع طالبان، بمعنى أن بايدن سيتمسك ببنود هذه الاتفاقية، لكنه سيسعى إلى إدخال تعديلات عليها بحيث تبقي واشنطن بعضاً من قواتها هناك لمكافحة الإرهاب، إلى حين تشكيل حكومة أفغانية انتقالية تشارك فيها طالبان، علماً بأن مثل هذه الصيغة تحدث عنها بايدن بنفسه في مقال نشرته له مجلة «فورين أفيرز» الأمريكية في الربيع الماضي. ومرة أخرى، تبدو واشنطن وكأنها تراهن على السراب.
فلا الإيرانيون جادون في التخلي عن مكتسباتهم من صفقة 2015 النووية بفتح ملفهم النووي مجدداً للتعديل والتقليص، بعد أن مضوا طويلاً في برامجهم النووية والباليستية لدرجة أن شهوراً فقط تفصلهم عن امتلاك القنبلة النووية، بحسب وزير الخارجية الأمريكي الجديد أنتوني بلينكن، ولا الطالبانيون مستعدون للتخلي عن أحلامهم في السيطرة مجدداً على السلطة في كابول أو الرضوخ لأي تعديل في الاتفاقية التي أبرموها مع إدارة ترامب، ولاسيما لجهة إبطاء رحيل القوات الأمريكية عن أفغانستان، علماً بأن حركة طالبان تعتبر رحيل هذه القوات هو جوهر اتفاقية فبراير 2020، ومكسبها الأكبر منها.
والجدير بالذكر أن الاتفاقية تضمنت سحب القوات مقابل التزام طالبان بألا تتعاون مع الجماعات الإرهابية، مثل تنظيمي القاعدة وداعش، وأن تمنع استخدامها لأفغانستان كمنطلق لشن الهجمات الإرهابية في المستقبل.
وهذا في حد ذاته كان إحدى مهازل السياسة الأمريكية. فطالبان مهما أبدت استعدادها للتعاون ضد التنظيمين المذكورين، فإن ذلك سيبقى مجرد حبر على ورق، لأن ما يجمعهما من مصالح وعقائد متشابهة لا يعد ولا يحصى. لكن الطرف الأمريكي، بسبب حماسه لإرجاع قواته إلى الولايات المتحدة بسرعة لأغراض انتخابية داخلية، وثق في الطرف الطالباني والتزاماته التي لم تكن سوى مناورة ماكرة.
وهكذا رأينا منذ فبراير 2020 تجنب القوات الأمريكية العاملة في أفغانستان الدخول في أي معارك مباشرة مع الميليشيات الطالبانية إلى حد كبير، كيلا تنهار اتفاقية السلام، الأمر الذي ساهم في فتح الطريق أمام هذه الميليشيات لشن هجمات أوسع وأقوى ضد قوات حكومة كابول، خصوصاً في ظل عدم وجود بنود واضحة في الاتفاقية تمنع طالبان من مهاجمة القوات الحكومية.