بقلم: باتريك كوبيرن – اندبندنت عربية
الشرق اليوم- “بادر إلى الانتقام أولاً”، مأثور لئيم في السياسة الإيرلندية الشمالية يعني اضرب خصمك متى استطعت من دون أن تنتظر منه استفزازاً. هكذا يصور هذا القول بدقة التقاليد العنيفة لإيرلندا الشمالية ويشرح لماذا تبقى سخونة المشهد السياسي هناك قريبة من درجة الغليان على الدوام.
وفي وسعكم أن تتخيلوا مشاعر السعادة التي ستنتاب هؤلاء الوحدويين ممن عارضوا على الدوام بروتوكول إيرلندا الشمالية (الذي اعتُمد بديلاً للحدود الصلبة بين إيرلندا الشمالية وجمهورية إيرلندا لحماية اتفاقية الجمعة العظيمة للسلام) الذي يمد الخط الجديد للحدود التجارية البريطانية – الأوروبية في المنطقة الواقعة بين إيرلندا الشمالية والبر الرئيسي لبريطانيا، حين يدركون أنهم قد تعرضوا للاستفزاز من قبل المفوضية الأوروبية. ففي لعبة كلاسيكية، لكن من النوع الذي يؤدي إلى عواقب وخيمة راسخة، دعت بروكسل لمدة وجيزة إلى إقامة “حدود صلبة” بين إيرلندا الشمالية وجمهورية إيرلندا، وهو أمر كانت قد قالت لبريطانيا مراراً وتكراراً إن من شأنه أن يكون لعنة ستعرض اتفاقية الجمعة العظيمة للخطر ويفتح الباب على مصراعيه أمام العنف الطائفي المتبادل.
ومع ذلك، فقد كان هذا مثالاً صارخاً على تراجع الاتحاد الأوروبي بصورة أنانية عن تحذيراته وعلى نحو تنقصه البراعة، ما أعاد فتح واحد من ملفات المسائل الأكثر تفجراً في السياسة الأوروبية. أما السبب في كل هذا فهو هدف جدير بالشجب ويتمثل في حظر تصدير اللقاحات القادرة على إنقاذ حياة البريطانيين من كبار السن والمتقاعدين، من الاتحاد الأوروبي إلى بريطانيا.
واجهت المفوضية على الفور سيلاً من الانتقادات المسيئة جراء حماقتها فسارعت إلى سحب اقتراحاتها وهي تشعر بالحرج. لكن في هذه المناسبة، كان الاتحاد الأوروبي للمرة الأولى منذ نحو أربع سنوات في موقع الدفاع عن نفسه في سياق علاقاته مع بريطانيا. لا عجب إذن أن مايكل غوف، وهو وزير شؤون مجلس الوزراء، أعرب بشكل صريح عن شعوره بالشماتة، حين خاطب مجلس العموم البريطاني قائلاً: إن تصرف المفوضية الأوروبية قد تعرض للاستنكار من قبل الجميع بدءاً بكبير أساقفة كانتربري وانتهاء برئيس وزراء فنلندا السابق. وبالفعل كان ثمة إحساس برئ بالبهجة ناجم عن مراقبة شخص كفء ومتزن ظاهرياً، مثل أورسولا فون دير لاين، يبدو محرجاً وساذجاً.
من المفترض أنها أخطأت التقدير أو تجاهلت، كما فعل الكثير من السياسيين في الماضي، قابلية الاحتراق الشديدة التي تميّز السياسة في إيرلندا الشمالية، أو ربما أخفقت في ملاحظة مدى تأجّج هذه السياسة سلفاً جراء إقامة حدود تجارية بين الاتحاد الأوروبي وبريطانيا في البحر الإيرلندي مع بداية هذا العام. ولا يمكن إخماد هذه النيران المتأججة بسهولة أياً كان الضجيج الداعي إلى التهدئة الوارد من بروكسل ولندن ودبلن.
وقد توقف موظفو الموانئ في كل من بلفاست ولارن، الذين يقومون بعمليات التفتيش الفعلية على الحدود، عن العمل ميدانياً بسبب الأخطار التي تتهدد سلامتهم. وظهرت بعض خربشات الغرافيتي على جدار في لارن منبهة إلى أن “جميع كوادر المركز الحدودي مستهدفون”. وتغص وسائل الإعلام منذ أسابيع بالقصص التي تدور حول الإحباط الذي تعانيه شركات وأعمال في إيرلندا الشمالية بسبب عمليات التفتيش الحدودية الجديدة التي تهدد بالقضاء عليها نهائياً.
ومنذ أن خان بوريس جونسون الوحدويين (البروتستانت) بشكل علني ووقّع على البروتوكول الإيرلندي، وهم يشعرون بأن الأرض تميل تحت أقدامهم، وأن الأوضاع تتجه كما يبدو على نحو لا يمكن وقفه نحو توحيد إيرلندا، الأمر الذي يصيبهم بالهلع. ويشتكي الوحدويون من أنه حتى وحدات الجيش البريطاني كانت مضطرة لتعبئة استمارات الاتحاد الأوروبي ذات العلاقة كي تستطيع إدخال معدات عسكرية الى إيرلندا الشمالية (لكن اتضح أن الجيش يفعل ذلك، على الرغم من أن شروط البروتوكول لا تلزمه بملئها). هكذا يبرز في هذا المقام أحد عناصر القول المأثور “بادر إلى الانتقام أولاً” جراء ضغط أولئك الأكثر تشدداً على قيادة “الحزب الوحدوي الديمقراطي”، التي تترأس الحكومة المحلية في إيرلندا الشمالية بالاشتراك مع حزب “شين فين” (الجمهوري)، منذ أن غيرت هذه القيادة موقفها. وبالنتيجة، باتت قيادة الحزب الوحدوي تعارض البروتوكول، بدلاً من أن تفرض تطبيقه على مضض.
وقد أمر إدوين بوتس، وهو أحد وزراء الحزب الوحدوي، مفتشي الميناء بالانسحاب، على الرغم من أن الشرطة أبلغته أنها لا تعتقد أن المفتشين عرضة للخطر من جانب مجموعات رديفة شبه عسكرية تصنف موالية (أو وحدوية). إلا أن بوتس زعم أن الشرطة لا تتمتع بـ” بفهم كامل للمخاطر”، والأرجح أنه على حق على المدى الطويل.
ونظراً لوضوحها التام، ليس من الممكن المبالغة في التعبير عن غرابة الأزمة الدائمة في إيرلندا الشمالية، وما تنطوي عليه من مخاطر محتملة. وقد خلقت بريطانيا بانسحابها من الاتحاد الأوروبي خط حدود جديداً بينها وبينه، ما سيؤدي إلى تداعيات ستصب في مصلحة الوحدويين / البروتستانت أو الجمهوريين / الكاثوليك. إن تقسيم إيرلندا من جديد، من خلال إعادة نصب حاجز مادي على طول الحدود البرية التي تبلغ 300 ميل، لم يكن ممكناً على الإطلاق، في الأقل لأنه سيمر إلى حد كبير في مناطق ذات غالبية جمهورية/ كاثوليكية وسيُصار إلى حرق أو تدمير أي مراكز جمركية جديدة تُقام فيها فور إنشائها. والآن، هاهو المجتمع الوحدوي/ البروتستانتي يفرض على “حدود البحر الإيرلندي” نوعاً من الفيتو المماثل (لذاك الذي فرضه الكاثوليك على المراكز الجمركية).
يمكن القول بعبارات أخرى إن الحدود بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي أشبه بأرض سائبة لا تعود لجهة بعينها، ومتنازع عليها، من دون توقف، من قبل مجتمعَين يسعى كل منهما للسيطرة عليها. ما من شأنه أن يؤثر في مستقبل العلاقات بين لندن وبروكسل على امتداد عقود عدة، لا بل الأرجح أنه سيسممها. لقد زعزع خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي تلقائياً استقرار إيرلندا الشمالية، التي ستزعزع بدورها استقرار بريطانيا الخارجة من الاتحاد الأوروبي.
غير أن الإقليم المحاصر لن يكون نقطة الاحتكاك الوحيدة، بل سيكون فحسب الميدان الذي سيشهد اندلاع القدر الأكبر من العنف المحتمل. فاز بوريس جونسون بالانتخابات العامة لعام 2019 بفضل زعمه أنه عازم على “تنفيذ خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي”، وتعهده بأن تحقق العلاقات بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي قريباً نوعاً من التوازن المستقر. إلا أن هذا بالضبط هو التعهد الذي لم يصبح حتى الآن قيد التطبيق. والواقع أن عدم الاستقرار صفة متأصلة في اتفاقية الانسحاب نفسها، والخلاف على اللقاحات والبروتوكول ليس إلا مقدمة لعقود مقبلة منه.
ستبقى بريطانيا بشكل دائم في موقع من يفاوض ثم يفاوض من جديد للوصول إلى السوق الموحدة للحصول على السلع والخدمات المتوفرة فيها. وعلاوة على ذلك، ستفاوض بريطانيا من موقع ضعف ما سيضطرها لتقديم تنازلات، كما كانت الحال غالباً خلال مفاوضاتها للخروج من الاتحاد الأوروبي. وأصبح صيادو الأسماك البريطانيون أولى ضحايا ميزان القوى الجديد الذي يشكو من عدم التكافؤ، بعدما كانوا ذات يوم رمزاً لثمار السيادة البريطانية التي سيعززها الخروج من الاتحاد الأوروبي.
تخيّل أنصار البقاء في الاتحاد الأوروبي ذات مرة اليوم الذي سيرى فيه دعاة الخروج الأخطاء المدمرة للأساليب التي اتبعوها في مغادرة أكبر الأسواق التجارية بالنسبة لبريطانيا، وكيف سيعربون عن الأسف لسلوكهم الأحمق. لكن من المرجح ألا يكون لأسفهم من عدمه أي قيمة تذكر، وأن يعمد الاتحاد الأوروبي في المستقبل إلى الدفاع بضراوة عن مصالح دوله الأعضاء الـ 27 في الوقت الذي سيعير آراء الحكومة البريطانية أو الرأي العام البريطاني قدراً أقل من الاهتمام الذي أفرده لهما في الماضي.
وستستجيب حكومة مؤيدة للخروج من الاتحاد الأوروبي، ووسائل إعلام تشاطرها هذا الموقف، حتماً من خلال اتخاذ بروكسل كبش فداء لكل الأخطاء التي تقع في بريطانيا، متهمة إياها بسلوك متسلط وممارسات غير منصفة. ومع أنها قد تكون على حق في إلقاء اللوم على بروكسل، فهذا لن يفيدها في شيء، لأن البطاقات الأقوى هي بكل بساطة في يد الاتحاد الأوروبي.
يمكن للحكومة أن تقول في هذا الوقت بالذات، ولو بصوت يخلو من الصخب، إن مزايا العمل الوطني السريع، الذي لا تعترضه القيود التي يفرضها اتحاد أوروبي صعب المراس، تتمثل في تطوير لقاح فيروس كورونا وتوزيعه على نحو عاجل. ولكن من غير المرجح أن يتكرر هذا النوع من النجاح في كثير من الأحيان.
لا بل على العكس من ذلك، ثمة دلائل تدعو للتكهن بأن علاقات بريطانيا بالاتحاد الأوروبي ستبقى مثل الهاجس الذي لا فكاك لها منه، وستتمخض عن مزيد من الخلافات. وإذ ستبدأ العلاقات الاقتصادية بتسوية أمورها نفسها بنفسها مع مرور الوقت، فإن ثمن ذلك سيكون عبارة عن مزيد من الخصومات والخلافات السياسية، فيما يعمل الخروج من الاتحاد الأوروبي كمحرك دافع للنزعة الانفصالية الإيرلندية والاسكتلندية. إن الضجة التي تشهدها إيرلندا الشمالية ليست نوعاً من مخلّفات الماضي التي تشذّ عن المألوف، بل جولة أولى من مواجهة دائمة بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي.