بقلم: سام منسى– الشرق الاوسط
الشرق اليوم- تسود أجواء من الترقب والحذر أرجاء منطقة الشرق الأوسط بانتظار تبلوُر رؤية استراتيجية جديدة للدول المعنية بمشكلاتها وفي مقدمتها الولايات المتحدة، التي يؤمل أن تعمل إدارة جو بايدن على صياغتها. وعلى الرغم من بعض المبالغة في تفسير الإشارات الصادرة عن الإدارة تجاه إيران، من السذاجة إشاحة النظر عن دلالات التعيينات الأخيرة، إضافةً إلى تصريحات وشهادات المسؤولين الجدد بالنسبة للموقف والسياسة المنويّ اعتمادها من الجمهورية الإسلامية وعلى رأسها خطاب بايدن حول السياسة الخارجية الأسبوع الفائت، التي لا يُستشفّ منها وجود تطابق بين أولويات العرب وأولوياته.
المؤشرات الصادرة عن الإدارة الأمريكية تفيد بأن الغموض ما زال يخيّم على أركانها خصوصاً بين من كان مع إدارة باراك أوباما وخبر الشرق الأوسط في زمن ما قبل الربيع العربي وما بعده، وعشية توقيع الاتفاق النووي وغداته. ولا يخفى أن عدداً لا يستهان به منهم تساوره رغبة في العودة إلى حبه القديم، أي التوافق مع إيران حول الإنتاج النووي والتفاهم معها على بعض مناطق النفوذ وتبادل الخدمات فيها، وهذا الأمر دليله راجح على ما عداه.
أغلب الظن أن السياسة الأمريكية الجديدة ستكون محكومة بالمقاربة الواقعية التي تنأى بنفسها عن الحروب والنزاعات الدائرة والتورط فيها، بل ستسعى لاحتوائها، لأنها ترى أن أغلبها من نوع الحروب الأهلية والمذهبية في منطقة تتراجع فيها المصالح الأمريكية. وهذا التوجه شبه ثابت في العقل الاستراتيجي المسيطر في واشنطن أقله منذ زمن القيادة من الخلف التي اعتمدها أوباما حيال النفوذ الإيراني، وتالياً، يميل الاتجاه إلى الرغبة في الرجوع إلى الاتفاق النووي، إنما لم تتضح الصورة بعد بالنسبة للآلية والإجراءات والشروط المتبادلة لهذه العودة.
إنما أيضاً قد يصعب على الإدارة الجديدة أن تفرّط بإنجازات إدارة دونالد ترامب وفي طليعتها التطويق الاستراتيجي لإيران، بدءاً من التعويل على تطبيع العلاقات المتزايد بين إسرائيل والعالم العربي والتقارب بينهما، وصولاً إلى ضم إسرائيل إلى المجال العسكري الذي تديره القيادة المركزية الأمريكية والذي يشمل دول الشرق الأوسط الأخرى.
هذا المناخ يشي بأن الإدارة الجديدة تنحو باتجاه احتواء المشكلات والصراعات وتخفيف حدّة التوتر في الأماكن الأكثر اشتعالاً وخطورة، والمرشحة لأن تشهد تفجر نزاعات غير معروفة النتائج، أكثر مما هي مرشحة للتسويات الكبرى المستدامة.
وإذا صح هذا السيناريو فذلك يعني أن الخطوط العريضة وموازين القوى لأوضاع المنطقة ستراوح مكانها، ما قد يسمح لإيران بتمكين حلفائها في أماكن وجودهم.
وينبغي التذكير بالمشكلات الداخلية متعددة الجوانب التي تواجهها إدارة بايدن، بدءاً من الانقسام الداخلي السياسي والاجتماعي، مروراً بتداعيات جائحة “كورونا” وآثارها الاقتصادية الحادة، وصولاً إلى الهموم الاستراتيجية الأمريكية وتنقية علاقتها الدولية التي تحتل المرتبة الأولى في اهتمامات الإدارة، ما يجعل الاحتمالات التي ذكرناها بالنسبة للإقليم أكثر رجحاناً.
إنما أيضاً وعلى الرغم من كل ما سبق، تنبغي مراقبة ثلاثة عوامل مؤثرة على أحوال المنطقة في المرحلة المقبلة:
العامل الأول هو مدى رضا إسرائيل وقناعتها بالتهدئة مع إيران، في ظل مسار مستقبل العلاقات بين واشنطن وطهران، لا سيما إذا ما سلكت العودة إلى الاتفاق النووي اتجاهاً لا يلائم المصالح الإسرائيلية ويخفّف من هواجسها، ووجدت إسرائيل نفسها مهدَّدة من إيران سواء عبر قدرة كامنة لتطوير سلاح نووي لا يطوّقها هذا الاتفاق كفاية، إضافةً إلى القدرات الإيرانية الأخرى كالصواريخ الباليستية وغيرها من أسلحة تملكها ميليشياتها في أكثر من مكان، خصوصاً على حدودها الشمالية. ويبدو أن التمكين الإيراني في سوريا ولبنان سائر على قدم وساق، حسب أكثر من مصدر، عبر إنشاء مراكز عسكرية وثكنات جديدة، وتدفق لشحنات الأسلحة التي تتعرض باستمرار للقصف الإسرائيلي، ناهيك بإجراءات التغيير الديمغرافي الممنهج الذي تقوم به طهران في سوريا.
العامل الثاني هو الدور العربي المتوقَّع في هذا الشأن والذي يفترض بداهةً أن يبدأ وقائياً عبر تحصين سريع لموقفها، عبر ممارسة ضغوط متزايدة على الإدارة الأمريكية لأخذ مصالح الدول العربية في الاعتبار، لا سيما أنها الطرف المعنيّ أكثر بالتهديدات الإيرانية النووية منها واللا نووية.
المنشود هو إصرار وتصميم عربي على تجنّب عودة غير مشروطة للاتفاق النووي، وترجمة هذا الموقف إلى لغة تفهمها واشنطن تشرح مطالب العرب من إيران ومن الولايات المتحدة بواقعية، وتحدد بوضوح ما يمكن للعرب تقديمه في هذا الصدد، وما هو المطلوب من أمريكا. إن الموقف العربي يصبح وقعه أكبر إذا جاء نتيجة توافق عربي على موقف صلب موحد تعبّر عنه جبهة واحدة فعّالة، تمثل وجهة نظر عربية تصر على أن تكون جزءاً أساسياً من أي صفقة مقبلة مع إيران.
وبمقدور العرب أيضاً الإفادة من الموقف الأوروبي الذي عبّر عنه البيان الفرنسي البريطاني الألماني المشترك، وأكد ضرورة إدخال تعديلات على الاتفاق تشمل بالإضافة إلى “النووي” الصواريخ الباليستية والأدوار الإيرانية في المنطقة، وإشراك الدول المتضررة في أي مفاوضات مستقبلية.
أما العامل الثالث فيبقى ضمن ما يمكن للعرب تقديمه في هذه المواجهة بما يحث واشنطن على مراجعة مواقفها. إن الأطراف المتضررة من التدخلات أو الوصاية الإيرانية قادرة على لعب أدوار مهمة في البلاد المعنيّة مثل لبنان وسوريا والعراق واليمن. صحيح أن ميزان القوى ليس لصالحها إنما أيضاً التسليم بالأمر الواقع وانتظار الترياق من الجهات الخارجية هو من أكثر العوامل السلبية تأثيراً على مواقف واشنطن أولاً والدول الأوروبية ثانياً من إيران، وبخاصة عندما يسود الانطباع المدعّم بوقائع على الأرض بأن الأمور في هذه الدول باتت مدجنة وخاضعة للهيمنة الإيرانية، ما يحوّل أي تسويات مقبلة سواء كانت شاملة مستدامة أو مؤقتة بانتظار حلول أوسع، إلى مكوّنات مستقبلية لمزيد من النزاعات والاضطرابات.
إن تعبير الأطراف الداخلية عن أوزانها الحقيقية، وعن مدى تضررها من التدخل الإيراني وممارساته ورفضها لتجيير مصالحها كشعوب وأوطان لخدمة السياسة الإيرانية ومطامعها وأهدافها في المنطقة قد يكون من العوامل المؤثرة والمساعِدة في هذه المرحلة. وفي هذا الإطار، لا يمكن القفز فوق جريمة اغتيال الناشط السياسي والباحث الشيعي لقمان سليم، المعروف بمناهضته لـ”حزب الله” في منطقة الزهراني جنوب لبنان، وهي جريمة نكراء تضاف إلى العشرات بحق المعارضين الشيعة لتغوّل إيران.
هذه العوامل الثلاثة لا بد أن تلعب دوراً في سياسات واشنطن ومواقفها تجاه المنطقة وتحديداً بالنسبة لعلاقاتها مع إيران. إن الخوف من التعيينات ومن هاجس تكرار تجربة أوباما وسياسته تجاه المنطقة لا يكفي. الحذر واجب، ولا تزال المساحة متاحة في واشنطن لأدوار عربية قادرة على أن توازن الضغوط التي تمارسها جماعات إيران في أميركا حتى لا ندّعي القدرة على غلبتها والتفوق عليها.
إن مصالح واشنطن مع إسرائيل والدول العربية والإسلامية تفوق أهمية علاقاتها بطهران المحكومة بمزاج تتحكم به الغيبيات من جهة والأيديولوجيا الخشبية المستبدة من جهة أخرى.