بقلم: مصطفى فحص – الحرة
الشرق اليوم- تتهيأ موسكو إلى مرحلة يسودها تشنجات في العلاقة مع واشنطن أشبه بفترة ما قبل الرئيس الأسبق باراك أوباما، لذلك يستعد الكرملين للتعامل مع إدارة أميركية تتبنى ما يمكن وصفه بعقيدة كلينتونية (نسبة للرئيس الأميركي الأسبق بيل كلنتون)، التي وصفت بالإدارة المتماسكة وبالتوافق الإستراتيجي بين مراكز صنع القرار، والعمل المؤسساتي ما بين أجهزة البيت الأبيض و”الإستابلشمنت”، ففي تلك المرحلة فرضت واشنطن على الأسرة الدولية موقعها كقطب أحادي يصعب تحديه أو مواجهته.
اندفاعة الإدارة الجديدة المتمسكة بالزعامة الدولية وما تحمل من مضامين الأحادية القطبية، تؤرق موسكو وتضعها أمام خيارات صعبة تفرض عليها إما المواجهة المكلفة التي ستعيدها إلى منطق الحرب الباردة وسباق التسلح، وإما خيار التراجع وهو مستحيل كونه سيهدد سلامة أمنها القومي.
كما أن خيار المهادنة يبدو صعبا مع إدارة تخطط لمحاصرتها، فيما يبقى أمام موسكو خيار اللجوء إلى التحالف الكامل مع بكين الذي سيؤدي مستقبلا إلى صدام ما بين مشروعها الجيو اقتصادي الذي تسعى إليه في المدى الأورآسيوي وبين مشاريع الصين في إحياء طريق الحرير وتوسيعها قاريا (مشروع الطريق والحزام) الذي يهدف إلى توسيع مصالح الصين الاقتصادية على حساب المصالح الروسية.
موسكو الحائرة ما بين غرب يضع شروطه الطاردة و بين شرق يسعى إلى قضمها وجدت نفسها شبه وحيدة في مواجهة نوايا إدارة بايدن في السياسة الدولية ومشروعها باستعادة الولايات المتحدة موقعها القيادي، الأمر الذي استفزها وتسبب بردة فعل سلبية غاضبة من عودة واشنطن للحديث عن مكانتها في الهرمية العالمية التي أعادت إلى أذهان النخب السياسية والثقافية الروسية تشخيص المفكر الأميركي فوكوياما في كتابه نهاية التاريخ لمكانة روسيا في هرمية النظام العالمي الجديد بعد الحرب الباردة ووصفه لها أنها ” الشريك الأصغر” والذي فرض على موسكو المهزومة حينها التصرف مع الأحداث وفقا لحجمها والاعتراف بقدرة الولايات المتحدة وحجم تأثيرها.
مما لا شك فيه أن قرار واشنطن إنهاء وضعية الانكفاء التي استمرت 12 سنة خصوصا في الأربع سنوات الأخيرة تحت إدارة ترمب، قوبل بامتعاض وريبة روسية، ولم يتردد الكرملين في وصف تصريحات الرئيس الأميركي جو بايدن بالعدوانية وقال الناطق باسم الرئاسة الروسية، دميتري بيسكوف، يوم الجمعة الفائت “مع أسفنا الشديد فإن هذه التصريحات عدوانية وغير بناءة، وإن ملاحظات نوع من الإنذار ليست مقبولة بالنسبة لنا. لقد قلنا إننا لا ننوي الإصغاء لأي تصريحات من هذا النوع، أو إي بيانات توجيه”.
لهجة الكرملين الحادة جاءت ردا على التحذيرات الأخيرة التي أطلقها بايدن ضد روسيا ورسم من خلالها شكل العلاقة المستقبلية بين البلدين، إذ تخطط واشنطن لمواجهة مشاريع المنافسة الروسية وزيادة نفوذها الدولي حيث أوضح بايدن في كلامه الموجه مباشرة لنظيره الروسي التالي “قلتُ بوضوح للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وبشكل مختلف جداً عن سلفي، إن الزمن الذي كانت تخضع فيه الولايات المتحدة لأفعال روسيا العدوانية قد ولّى”.
تسعى موسكو إلى تشخيص الطبيعة السياسية للإدارة الأميركية الجديدة، واستدراك ما قد تتسبب به من متاعب، فعلى ما يبدو أن فريق بايدن الذي يسعى إلى حلحلة بعض الأمور الإستراتيجية خصوصا فيما يتعلق بتمديد الإتفاقية النووية (نيو ستارت) ولكن في المقابل يصر على جعل قضية المعارض ألكسي نافالني أحد أبرز عناوين المرحلة المقبلة، ودفع الإتحاد الأوروبي إلى مزيد من التصعيد في هذه القضية، التي جعلت العلاقة بين الأوروبيين وروسيا في أدنى مستوياتها وفقا لما جاء على لسان وزير خارجية الإتحاد الأوروبي بوريل بعد لقائه بنظيرة الروسي سيرغي لافروف.
وعليه فإن العلاقة بين الجانبين لن تبقى خاضعة لمقاييس واعتبارات براغماتية المصالح، فالهوة تتسع بين الجانبين حيث تحاول موسكو الدفاع عن ما أنجزته في السنوات الأخيرة فيما تصر واشنطن على إستعادة زعامتها، وما بين حنين روسي إلى ماض إمبراطوري ورغبة أميركية بفرض هيمنة القوة العظمى، يبدو أن قضايا كثيرة وشائكة ستعود إلى الواجهة من حقوق الإنسان مرورا بأفغانستان وسوريا وصولا إلى أوكرانيا.