بقلم: حسن إسميك – صحيفة إيلاف
الشرق اليوم- منذ مدة ليست بالبعيدة، وتحديداً في 19 تشرين الأول/أكتوبر 2020، نشرت على صفحات جريدة النهار العربي مقالاً بعنوان: “غرّبوا النكاح… تأملات على هامش التغيير والتطور”، تحدثت فيه عن حالة الجمود والترهل التي تعتري قوانين الجنسية في بلداننا العربية، واعتبرت إصلاحها شرطاً لازماً إذا أردنا حقاً اللحاق بركب الحضارة المعاصرة، وتوقعت أن تكون دولة الإمارات سباقة في هذا الشأن لكونها رائدة في كلّ مشاريع التحديث الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والفكرية.
لقد استغرب الكثير من القراء فكرتي آنذاك؛ ربما لأن المواطن العربي يعتقد أن الجنسية أهم من الإنسان ذاته، لذلك، وربما يكون هذا هو السبب الذي جعلنا نحن العرب في طليعة المجتمعات التي تقوم بتهجير الكفاءات العلمية من أراضيها وتصديرها إلى الخارج، فمعظم أنظمة صنع القرار العربية تتسم بالتقليدية والترهل، وباتت تفرض على الأفراد والمجتمعات، بشكل أو بآخر، هذا النمط من التفكير المحدود إلى حدٍّ ما، ولكن.. ولأني أعرف الإمارات حق المعرفة، وأعرف مدى قيمة الإنسان وأهميته في فكر قادتها وسياسييها؛ لذلك كنت دائماً أكتفي بالقول لناقديّ، وبكلِّ ودٍّ: “الأيام بيننا”.
لم أتعامل مع الأفكار التي طرحتها في مقالي ذاك على أنها تنبؤات إطلاقاً، فلا أنا ساحرٌ، ولا أؤمن، بطبيعة الحال، بأي شكل من أشكال التنجيم بل لأني عشت في هذا البلد ومع أهله سنين طويلة، وعرفت عن كثب حبهم لدولتهم واعتزازهم بها، ورغبتهم في تطويرها وبنائها. لأجل هذه الأسباب فإن ما أشرت إليه في المقال السابق لا يعدو عن كونه تطبيقاً لقانون الديالكتيك الثاني، الذي يشرح كيف وفي أية ظروف تحدث الحركة والتطور، فيرى هذا القانون أن تراكم التغيرات الكمية التدريجية سيفضي بالضرورة إلى تغييرات كيفية، تأتي على شكل قفزات، فتحدث تحولاً جذرياً من “كيف قديم” إلى “كيف جديد”. ولأن سيرورة التطور في دولة الإمارات تسلك الطريق الصحيح، المنطقي والموضوعي، فقد كان اتخاذ هذا القرار قادماً لا محالة. ولم تخيّب القيادة الإماراتية ثقة مواطنيها ولا ثقة المقيمين فيها من العرب أو القادمين من آسيا وإفريقا، بل وأيضا من دول العالم الأول، وأولئك المتحمسين لنهضتها والذين يرون فيها بارقة أمل توحي بأن الخروج من النفق المظلم الذي تسلكه دول عربية كثيرة مازال ممكناً.
وبالفعل، وبتوجيهات من الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، اعتمد مجلس الوزراء الإماراتي، يوم السبت 30 كانون الثاني/يناير 2021، برئاسة الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، تعديلات جديدة للقانون الاتحادي الخاص بالجنسية وجوازات السفر، تجيز منح الجنسية الإماراتية للمستثمرين وأصحاب المهن التخصصية وأصحاب المواهب وعائلاتهم، وكان هذا الخبر مفاجئ عن حق، وما زال منذ صدوره وحتى الآن حديث الساعة ، وعكس فرحة كبرى لدى جميع العرب المقيمين، وكذلك من الموجودين في بلادهم الذين استبشروا خيراً ووجدوا الأمل في هذا القرار، في دولة تكرم مواطنيها ومقيميها خير تكريم، وأخيرا وجد الأذكياء وأصحاب العقول والخبرات ضآلتهم المنشودة في دولة عربيه شقيقه، ليعيشوا فيها بأمن وسلام، بدلاً من ركوب قوارب الموت بحثا عن مستقبل زاهر لعوائلهم . وبهذا غرد الشيخ محمد بن راشد على حسابه عبر تويتر قائلاً: «بتوجيهات من رئيس الدولة. اعتمدنا اليوم تعديلات قانونية تجيز منح الجنسية والجواز الإماراتي للمستثمرين والموهوبين والمتخصصين من العلماء والأطباء والمهندسين والفنانين والمثقفين وعائلاتهم.. والهدف هو استبقاء واستقطاب واستقرار العقول التي تساهم بقوة في مسيرتنا التنموية».
كما ويأتي هذا القرار تتويجاً لمسار مطول وحثيث من التركيز على العلم والعلماء والتعليم في دولة الإمارات، ففي 12 كانون الثاني/يناير افتتحت “جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي”، أول جامعة للدراسات العليا المتخصصة ببحوث الذكاء الاصطناعي على مستوى العالم، أبوابها رسمياً أمام أول دفعة من طلابها البالغ عددهم 78، ينتمون إلى 29 جنسية مختلفة، ومن بينهم 14 إماراتياً. فيما يعد إضافة جديدة لمسيرة التعليم في دولة الاتحاد، ناهيك عن المنح الدراسية التي تعتزم دولة الإمارات تقديمها لغير الإماراتيين، لتسير جامعاتها على خطى أعرق جامعات العالم وأهمها، فتستقطب طلاب العلم المميزين، مهما كانت جنسياتهم وأوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية، لتضمن حقهم بالتعلّم، وتضمن أيضاً ألا تخسر الإنسانية ما قد يقدمونه في المستقبل.
وهنا أتذكر حديث صديق لي، كان قد حصل ابنه على منحة للدراسة في فرع جامعة نيويورك العريقة في أبو ظبي، والتي يوليها الشيخ محمد بن زايد ولي عهد أبو ظبي رئيس المجلس التنفيذي رعايته الخاصة، فهذه الجامعة كما أخبرني صديقي تستقطب الطلاب من المتفوقين والأذكياء من جميع انحاء العالم، وتُقدم لهم المنح الدراسية المجانية حتى يتخرجوا، ومن هنا كانت تعديلات قانون الجنسية الجديد، أمراً في غاية الأهمية يُمكن هؤلاء الخريجين من الحصول على الجنسية الإماراتية ليصبحوا مواطنين مساهمين في رفعة أبو ظبي كإمارة صاعدة في التاريخ المعاصر. ولا شك أن هذا النهج سوف يوفر مجالاً واسعاً للأبداع والعطاء ويدفع العملية التنموية قدماً نحو الأمام، ويحقق المجد والرفاهية وينعكس ايجابياً على الإمارات كافة.
وهنا يجب أن نتذكر بعض الإنجازات التي حققتها دولة الأمارات بالأمس القريب. لقد أطلقت الإمارات مسبار “الأمل” في أول رحلة فضائية عربية إلى كوكب المريخ، وأضافت بالتزامن مع ذلك “مقرر الفلسفة” إلى مناهجها الدراسية في برنامجها لهذا العام. وما هذا إلا تأكيدٌ على أن كلّ فروع العلم على المستوى نفسه من الأهمية والاهتمام بالنسبة للقيادة الإماراتية، وأن تطور العلوم التطبيقية لا يكون مؤثراً بالشكل الصحيح إلا إذا ترافق مع مستوى مماثل من التطور في العلوم الإنسانية، فالإنسان هو هدف التنمية وغايتها، وبناء الإنسان ركيزة أساسية لبناء المجتمعات والأوطان..
لم يأت هذا القرار من فراغ، حتى على الصعيد التشريعي، فقد سبقه، في نهاية العام الماضي مجموعة من التعديلات لبعض أحكام قانون الأحوال الشخصية والمعاملات المدنية والعقوبات وقانون الإجراءات الجزائية. وقد أتى كل ذلك في إطار سعي دولة الإمارات الحثيث لتطوير بنيتها التشريعية، وتعزيز جاذبيتها الاقتصادية والاجتماعية على المستوى العالمي، وبجهود قياداتها الدؤوب على توفير المناخ الملائم لاستقطاب الخبرات والاستثمارات الأجنبية.
تعمل دولة الإمارات على توفير بيئة تشريعية، عمادها استقلال السلطة القضائية، حيث تعتبر من أفضل الأنظمة القضائية في المنطقة، والتي تضمن حقوق المواطنين والمقيمين وحرياتهم وأمنهم، وتتوافق مع تعددية الثقافات، وتخدم سياسة الانفتاح والتحفيز التي تتبعها الدولة. وتأتي أهمية القرار من تركيزه على نقطتين أساسيتين هما “الاقتصاد والعلم” وعلى فئتين رئيسيتين، هما “أصحاب المنجزات وأصحاب المواهب”.
وعلى صعيد موازٍ، تثبت التعديلات الإماراتية الأخيرة روح التسامح والأخوة الإنسانية التي تتسم بها مسيرة التطور الإماراتية في كل قراراتها ودينامياتها ومفاعيلها. فالإمارات تريد أن تبني وتستقطب خبرات وقدرات تواكب وسع طموحها، وطموحها كبير لا تحده الجنسيات أو الانتماءات الضيقة المذهبية أو القومية أو العرقية أو الدينية، ولا يخشى حضارة الآخر أو ثقافته، بل يؤمن أن الحضارة إنسانية يبنيها الجميع.. وتتسع للجميع.. ويستفيد منها الجميع.
والحقيقة ان منح الجنسية الإماراتية، ليس أمراً عادياً كما يحصل في بعض الدول العربية الأخرى، فالجواز الإماراتي يتمتع بخصوصية فائقة، لأنه يأتي في قائمة الجوازات الأكثر نفوذاً، ويحتل مرتبة متقدمة من حيث القوة، ويصنف ضمن قائمة أقوى خمسة جوازات سفر في العالم بحلول عام 2021 وكل ذلك ينبع من مما توليه دولة الأمارات لمواطنيها وسعيها الدائم لتحقيق سعادته ورفاهيته.
من الآن وصاعداً، ستجد الخبرات العربية والعالمية مكاناً لها في الإمارات، مثلما وجدت لنفسها في السابق مكاناً في أمريكا وأوروبا وكندا.. وغيرها، وسيصير بإمكانها الحصول على جنسية الدولة التي تعدُّ من الأفضل عربيا. كما يعُّد منح الجنسية هذا فرصة للإماراتيين أنفسهم، إذ ستنتقل إليهم معارف المجنسين الجدد وخبراتهم من خلال العمل معهم جنباً إلى جنب، فتتحول دولة الإمارات إلى ساحة يتنافس فيها الجميع لبناء الوطن ورفع رايته عالياً في الساحة الدولية.
لم تخشَ الدول المتقدمة يوماً على هويتها، فمنحت جنسيتها لكثيرين، وصل بعضهم إلى مواقع حساسة في الدولة أو في القطاعات المهمة الأخرى (مدراء شركات وبنوك ورؤساء جامعات ومراكز أبحاث علمية في الطب والفيزياء والتقانة.. وغيرها) فهي تستثمر في بناء الإنسان الذي يصنع المعجزات، ولا تراهن على الموقع الجغرافي الطبيعي! واليوم وبقرار الإمارات منح جنسيتها لفئات من المستثمرين، وأصحاب المهن التخصصية وأصحاب المواهب، ترمي وراءها سنوات من انعدام الثقة بالهوية العربية، متسلحة بنقاط قوة هذه الهوية، ومدركة لنقاط ضعفها، لتبرهن للجميع أن البناء عمل جماعي لا يتم إلا بالتعاون، وأن من سيشارك في مسيرة التنمية الإماراتية، مواطناً أو مجنساً، سيكون شريكاً في النتائج والأرباح أيضاً، كما سيكون حقه محفوظاً ومصالحه مصانة. وأنا على ثقة بأن هذا القرار ليس إجراءً مرحلياً وحسب، بل هو جزء من تخطيط استراتيجي دقيق وبعيد المدى، يرسم ملامح نموذج تنموي إماراتي رائد ومبشر.
ومع كل قرار تاريخي تتخذه القيادة الإماراتية وكل نقلة نوعية إبداعية ومبتكرة، تزداد ملامح هذا النموذج التنموي الإماراتي وضوحاً يوماً بعد يوم، فبعد أن كانت الإمارات وجهة مفضلة للسياحة وللفنون في العالم، ستصبح اليوم الوجهة المفضلة للاستثمارات، ولأصحاب العقول والمواهب ومكان خصب لتطوير البحث العلمي وتقدير الإنسان واحترامه ، ما سيجعلها تحلق بعيداً عن سرب السياسات التقليدية التي جرى اعتيادها في عالمنا العربي –والتي أثبتت مرة بعد مرة أنها لا تؤدي إلا إلى طرق مسدودة، سواء في السياسة أو في الاقتصاد والتنمية– ولتدخل إماراتها السبع فضاء أرحب ملؤه الأمن والسلام والأخوة والتعايش، والمزيد من الإنجاز.
ستصبح الإمارات العربية المتحدة أول دولة عربية تنجح في اكتشاف الكواكب الأخرى، وستكون أول دولة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا والعالم العربي تستضيف معرض “إكسبو 2020 دبي” المُزمع افتتاحه في شهر أكتوبر/تشرين الأول القادم، وستفتتح هذا العام أيضاً التشغيل التجاري لمحطة براكة النووية، أول مفاعل سلمي للطاقة النووية في العالم العربي. ناهيك عن تصدرها قائمة الدول العربية في تقرير التنمية البشرية 2020 والصادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي نهاية العام الماضي، متقدمة أربع مراتب في التصنيف العالمي لتحتل المرتبة 31 عالمياً من بين 189 دولة شملها التقرير. ويأتي هذا التعديل على قوانين الجنسية ليثبت مرة أخرى أن دولة الإمارات هي السباقة، في العلم والتنمية والاستثمار والتجارة، وفي القوانين والتشريعات وفي الأخوة الإنسانية والتسامح الديني.
سيكون يوم 2 كانون الأول/ديسمبر 2021 عيداً بكل ما تحمله الكلمة من معنى، ليس فقط للاحتفال باليوبيل الفضي لدولة الإمارات الفتية، حيث ستتم أعوامها الخمسين، بل للاحتفاء بعظيم الإنجازات التي تحققت في نصف قرن، منذ أن أسس المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان الاتحاد وإلى يومنا هذا الذي يتابع فيه حكام الإمارات مسيرة البناء والتنمية والتطوير بخطى سديدة وواثقة، ولست أضرب بالرمل هنا أيضاً، بأن الإمارات ستكون في طليعة دول العالم ، حتى قبل أن تصل لليوبيل الذهبي، لأنها تقوم بأفضل أنواع الاستثمار: الاستثمار بالإنسان.. وبالمستقبل.. وأيضاً..”الأيام بيننا”!