بقلم: فينيس كابل – اندبندنت
الشرق اليوم- إليكم هذا السؤال الصعب. كم عدد البلدان غير المملكة المتحدة التي لديها أكثر من منتخب “وطني” واحد في كرة القدم الدولية؟ الدنمارك وجزر فارو؟ هل هناك بلد آخر؟ (أرسلوا أجوبتكم عبر “تويتر” إلى vincecable@)
وبصفتي مشجعاً متعصباً لكرة القدم ووطنياً فائقاً عندما كنت طفلاً، اعتقدتُ أن هذا النظام يعني أننا أربع مرات أفضل من أي بلد آخر. لكن لاحقاً، كطالب مثقل بذنب ما بعد الاستعمار، اعتقدتُ أن ذلك يشكّل شذوذاً إمبريالياً ظالماً بالنسبة إلى بقية الدول وسرعان ما سيُلغى.
بعد ذلك، أدركتُ أن هذا النظام جسّد فكرة ذكية، وتحبه الدول الأخرى لأنه يجعل من السهل هزيمة منتخباتنا المقسمة. لم يكن على الاسكتلنديين والويلزيين تشجيع فريق يهيمن عليه اللاعبون الإنجليز، فيما يمكن للجماهير الإنجليزية أيضاً دعم المنتخبات الأخرى نظراً لاحتوائها نجوم الدوري الإنجليزي كبيلي بريمنر وريان غيغز وجورج بست آنذاك، وأندرو روبرتسون وغاريث بيل في الوقت الحاضر.
قد تبدو هذه طريقة سطحية لتقديم موضوع جاد للغاية يتمثل في أن غالبية الاسكتلنديين وأعداداً متنامية في ويلز، يُخبرون منظمي استطلاعات الرأي بأنهم يرغبون في الاستقلال. وهناك مزاج متحوّل في إيرلندا الشمالية نحو الانضمام إلى الجمهورية [الإيرلندية]. وتظهر هذه التطورات أن صرح اتحاد “الدول الأربع” (التي تتشكل منها المملكة المتحدة) يتسم بالهشاشة، على الرغم من كونه صرحاً فريداً من نوعه.
على مدى قرون، تعايش أناس بهويات مختلفة، وفي حالة اسكتلندا، بقوانين ومؤسسات وطنية مغايرة، داخل كيان واحد واعتبروا أنفسهم جزءاً منه. هكذا قدمت بريطانيا للعالم نموذجاً استثنائياً لـ”الهوية المتعددة” multiple identity، متحدية بذلك الحدود الوطنية الضيقة التي يُحبس فيها الناس عادةً.
إنه ليس بالأمر الذي تستطيع بلدان عدة تحقيقه. لقد نجا عددٌ قليل جداً من الدول المتعددة الجنسيات، وكذلك تلك التي غالباً ما تحافظ على وحدتها من خلال قمع الأقليات التي ترغب في الاستقلال أو الانضمام إلى دول أخرى (كتركيا والأكراد، والهند وكشمير، وباكستان وبلوشستان، وسريلانكا والتاميل، وموضوعياً، الصين والتيبت وشينجيانغ). في المقابل، انقسم بعضها بالعنف عادةً (كالاتحاد السوفياتي، ويوغوسلافيا، وإثيوبيا، والسودان)؛ أما الطلاق المخملي (على طريقة تشيكوسلوفاكيا، وكذلك اسكندينافيا منذ أكثر من قرن) فإنه أمر نادر.
لقد بدأت العلاقات بين اسكتلندا وبقية المملكة المتحدة في التدهور منذ وقت طويل، حين أنهى أفول الإمبراطورية البريطانية فترة شارك فيها الاسكتلنديون وساهموا بشكل غير متناسب في مشروع بريطاني ناجح ومربح. لكن بقيت هناك سبلٌ بديلة، وإن كانت مؤقتة، للوحدة.
وفي هذا الصدد، أتاح دخول المملكة المتحدة إلى المجموعة الاقتصادية الأوروبية بيتاً مشتركاً جديداً تلاءم مع تاريخ اسكتلندا الأوروبي. ومن داخل الاتحاد الأوروبي، قدّمت المملكة المتحدة إطاراً يخفف حدة السياسات المسمومة في إيرلندا الشمالية. كذلك وجد بعض الناس الطمأنينة في السياسات الديمقراطية الاجتماعية التي اتبعها البلد بالإجماع، خلال فترة ما بعد الحرب [العالمية الثانية].
في موازاة ذلك، برز طلب في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي بشأن الحكم الذاتي كبديل للاستقلال الكامل. وقاد تلك الجهود الليبراليون الاسكتلنديون من أمثال جو غريموند وديفيد ستيل مع بعض أعضاء حزب العمال الداعمين لتفويض السلطة devolution، كجون سميث وروبن كوك ودونالد ديوار وآخرون ممن أدركوا الواقع الجديد. عندما عِشتُ في غلاسكو، أسهمتُ في كتاب “الوثيقة الحمراء بشأن اسكتلندا” The Red Paper on Scotland في 1975 الذي حرّره غوردون براون (رئيس الحكومة البريطانية الأسبق)، ووضع جدول أعمال سياسي بشأن حكومة مُفَوّضة devolved government.
في تلك المرحلة، شكّلَتْ القومية حركة هامشية تتواجد بعض شخصياتها الوحشية في صفحات رواية دوغلاس هيرد “سكوتش أون ذا روكس،” حيث يخططون لتفجير أبراج الكهرباء.
استغرق الوصول إلى حكومة مفوضة ربع قرن، وأثناء ذلك الوقت تسببّت سنوات حكومة تاتشر والتراجع المؤلم للصناعة في توتير المزاج شمال الحدود، ما أدى إلى طرد المحافظين من اسكتلندا (إلى أن حدثت نهضة صغيرة في الآونة الأخيرة). واستطراداً، لقد ساعد ذلك على إعادة إنتاج حزب المحافظين والوحدويين باعتباره حزباً للقومية الإنجليزية، مع ما تسبب فيه من كارثة طويلة الأمد والمتمثلة في بريكست.
ومن المفارقات أن بريكست عزز الطرح القومي والوحدوي في آن واحد. إذ يشعر عديد من الاسكتلنديين، وليس القوميون وحدهم، بالغضب على نحو صائب إزاء إخراجهم من الاتحاد الأوروبي بواسطة تصويت إنجليزي. وثمة مجموعة مهمة من الناخبين الاسكتلنديين الذين صوتوا بـ”لا” للاستقلال في الاستفتاء الأول، لكنهم يفضلون الرسوخ في القواعد الأوروبية بدلاً من تلك التي تفرضها حكومة غريبة وغير كفوءة في لندن.
تميل هذه المجموعة الآن إلى دعم الاستقلال الاسكتلندي. لكن كما سيشير الوحدويون، فإن الأسابيع القليلة الأولى من (تطبيق) بريكست تُذكرنا يوماً بعد يوم بالتكاليف الخطيرة المترتبة على الانفصال. ولأن الاندماج داخل الاتحاد البريطاني أكثر تكاملاً من الاندماج داخل الاتحاد الأوروبي، سيكون أي انفصال عن بريطانيا، أعلى كلفة.
وإذا التزم القوميون بالبقاء في سوق بريطانية موحدة ونظام جمركي واتحاد نقدي موحد، فإن من شأن ذلك نزع ذخيرة منتقديهم، لكن ذلك يتطلب براعة وانضباطاً أعتقد أنهم يفتقرون إليه. وعلى أي حال، هناك تناقض (سيستغله الوحدويون إلى أبعد الحدود)، بين مقترح قومي أكثر ليونة ومطمئِناً بأقل قدر من الاضطراب (وهو ما أسماه أليكس سالموند “ديفو ماكس” Devo-max)، وبين رؤية أكثر مثالية بشأن خروج اسكتلندا من المملكة المتحدة وخلقها على الفور حدوداً برية جديدة مع الاتحاد الأوروبي.
ووفق واقع الحال، لقد فاز القوميون بالحجج العاطفية حول الهوية وفاز الوحدويون بالحجج العقلية بشأن الاقتصاد. ويعتبر استفتاء بريكست تذكيراً مفيداً بكيفية حدوث ذلك. الآن، نحن في خطر الوصول إلى طريق مسدود. إذا فاز القوميون بغالبية أخرى في انتخابات “هوليرود” [= انتخابات البرلمان الاسكتلندي] وطالبوا باستفتاء جديد، ثم ردّت حكومة المملكة المتحدة بـ”لا”، ماذا سيحدث؟ في ظل وجود مظالم اسكتلندية كثيرة (“لقد سرقوا نفطنا”)، ومظالم إنجليزية (“صيغة بارنيت” [التي تنسق الإنفاق العام في المملكة المتحدة بين مكوّناتها الأربعة كي تكون متناسبة دوماً]) لإشعال النار، فمن الممكن توقع اندلاع مواجهة على غرار ما حدث في كاتالونيا.
في المقابل، ثمة سوابق يمكن الرجوع إليها بهدف إيجاد حل سعيد عن مسألة من هذا النوع. وتقدم كندا أفضل مثل، حيث رفضت كيبيك الاستقلال مرتين، وفي الاستفتاء الثاني بهامش أقل من واحد في المئة. وتطلّب النجاح من المتحدثين باللغة الإنجليزية قبول ثنائية اللغة، والمساواة بين اللغتين والثقافتين الفرنسية والإنجليزية. وبشكل ما، لا أعتقد أن تحقيق المساواة بالنسبة للغة الغيلية سيوقف مد الانقسام هنا، في غلاسكو أكثر من غريمسبي.
ويتمثل العامل الرئيس الآخر في وجود رجلين بارزين من رجالات الدولة، بيير ترودو وجان كريتيان، اللذان استطاعا تجاوز خطاب الانقسام. وللأسف، رحل عديد من عمالقة السياسة البريطانية الاسكتلنديين، ويكاد يكون غوردون براون الرجل الأخير الذي لا يزال واقفاً ويبذل قصارى جهده ليُبدع في صياغة المؤسسات التي تربط بين مكوّنات الاتحاد. إنه يطرح السؤال عما يعنيه الآن أن تكون مواطناً بريطانياً في الأجزاء غير الإنجليزية من المملكة المتحدة، لكنه لا يجيب بشكل كامل على ذلك السؤال.
وهناك أيضاً سياسيةٌ بريطانية اسكتلندية رفيعة، لكنني أشك إنْ يخطر في ذهنها التفكير على هذا النحو، وهي نيكولا ستورجون التي تقف شامخةً فوق بوريس جونسون والحكومة البريطانية في الكفاءة بالنسبة إلى عديد من الإنجليز، وليس الاسكتلنديين وحدهم. وإذا تقدّمت [ستورجون] كي تؤدي دوراً ما على مستوى بريطانيا، من قبيل المساعدة في قيادة الحكومة كي تُنفّذ انتقال جذري في المملكة المتحدة، بما في ذلك داخل إنجلترا، فستكون النتيجة مثيرة. ولكن في ظل الحماسة الموجودة داخل الحزب القومي الاسكتلندي، سيكون ذلك وهماً خيالياً ينحرف بهم عن هدف الاستقلال.
في العالم الواقعي الكئيب، ننجرف كدولة نحو النتيجة الحتمية للبريكست والقومية الإنجليزية التي خلفها. وتتمثّل تلك النتيجة في إقدام غير الإنجليز على البحث عن باب للخروج. وإذا تجسّدت حجة لبريكست الرئيسة في أن الأمة التي تعتز بنفسها يجب أن تقدم تضحيات اقتصادية بهدف استعادة سيادتها، فلا ينبغي أن يتفاجأ دعاة بريكست إذا ترددت المشاعر نفسها الآن في إدنبرة وغلاسكو وكارديف وبلفاست.
وعلى الرغم من استمرار تأثير الحجج المتكافئة والمضادة القائلة إننا “أقوياء عندما نكون معاً”، إلا أن حزب المحافظين والوحدويين، بعد أن مزق اتحادنا مع أوروبا، لم يعد في وضع يسمح له بالدفاع عن قضيته.