بقلم: علي الصراف – العرب اللندنية
الشرق اليوم- يثير روبرت مالي المبعوث الأميركي الخاص الجديد إلى إيران ضجة مبالغا فيها، وسابقة لأوانها، ولا تستند بالضرورة إلى أساس صحيح.
بعض الجمهوريين في الولايات المتحدة يضمرون شيئا لأجل آخر. فهم إذ ينتقدون سجله في المفاوضات السرية مع إيران والتي أسفرت عن الاتفاق النووي، سيء الصيت، عام 2015، فإن المرء يحتاج أن ينظر إلى ما إذا كانت أصوله المصرية هي السبب وراء تلك الانتقادات.
السيناتور الجمهوري توم كوتون قال في تغريدة عبر “تويتر” إنه “لأمر مزعج للغاية أن يفكر الرئيس بايدن في تعيين روب مالي لتوجيه السياسة الإيرانية. مالي لديه سجل حافل من التعاطف مع النظام الإيراني والعداء لإسرائيل. لن يصدق آيات الله حظهم إذا تم اختياره”.
صحيفة “إسرائيل هيوم” قدمت المخاوف على حسن الظن، بالتشكيك في حرص مالي على أمن إسرائيل، واعتبرت أن ما يقوله في هذا الصدد “مجرد كلام في أحسن الأحوال”. وذلك لأنه “عارض المبادئ التي قدمها وزير الخارجية السابق مايك بومبيو كشرط لرفع العقوبات عن إيران”.
ومن منقلب آخر، ذهب رئيس “الحزب التقدمي الاشتراكي” اللبناني وليد جنبلاط في انتقاداته في اتجاه مختلف. فاعتبر تعيين مالي كمبعوث خاص لدى إيران هو “دليل شؤم”، وذلك لأنه من “هؤلاء المثقفين الذين يعملون لدى مراكز الدراسات التي تحلل وتنتهي باستنتاجات على حساب الشعوب”.
والنقمة هنا، إنما تنصبّ على كونه مثقفا. فهل كان يجب، بحسب هذا التقدير، أن يكون عديم الثقافة لكي لا تأتي استنتاجاته “على حساب الشعوب”؟
وهذا نقد مفارق. لاسيما وأن استنتاجات المثقفين غالبا ما تتفاوت على طول المسافة بين طرفي المسطرة.
عدا عن صداقته الشخصية المديدة مع أنتوني بلينكن وزير الخارجية الأميركي الجديد، فقد عمل مالي في ظل إدارتين ديمقراطيتين، للرئيسين بيل كلينتون وباراك أوباما، بوصفه مديرا للشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي، وهذا هو ما جعله موضع ثقة الإدارة الثالثة التي يقودها الرئيس جو بايدن. ولكن يحسن الأخذ بثلاث ملاحظات، قبل إصدار الحكم على الرجل.
الأولى، هي أنه ليس هو الذي يرسم السياسة الخارجية للولايات المتحدة، لا تجاه إيران، ولا إسرائيل ولا دول المنطقة الأخرى. وظيفته الرئيسية هي أن يقدم أفكارا وتحليلات وتقديرات. وفي الغالب، فإن صياغة الأفكار والتحليلات في الغرب، لا تقوم على فكرة واحدة أو منطلق واحد. المبدأ الأساس فيها هو تقديم الشيء وعكسه. ويتعين أن تأخذ الأفكار والتحليلات بعين الاعتبار المُرتجيات والعواقب. وفي القضايا الخطيرة، فمثلما أن للعواقب عواقب، فإن للمُرتجيات عواقب أيضا. أي أن “التحليل” غالبا ما يكون نوعا من بناء متكامل الأركان للتصوّر والتصوّر المضاد.
الاتفاق النووي سقط بسبب جرائم إيران الكثيرة التي لم يعد غض الطرف عنها ممكنا لقد تحوّل إلى فضيحة لأنه كان من الأساس فضيحة ولأنه زاد من بعد توقيعه فضيحة على أخرى
وهذا ممّا يحتاج إلى ثقافة أولا، ومن ثم فإنه يحتاج إلى قدرة على التجرد، كما يحتاج إلى قدرة على الصمت.
فبعد أن يتم تقديم التحليل الذي يجمع التصورات المتضاربة في السعي إلى استنتاج ما، ينتهي دور “المحلل”، ليرمي الكرة في ملعب السياسي وصانع القرار. وبالمناسبة، فإن محللا يتسبب بأخطاء، أو يضع تصوراته الشخصية محل الواقع، لا يُعمّر في وظيفته طويلا، كما لا يتم “توارثه” من إدارة إلى أخرى.
الملاحظة الثانية، هي أن إيران قضية أعقد وأخطر من أن يكون لمبعوث خاص دور حاسم فيها. واجبه الرئيسي هو التمهيد وسبر الممكنات واستقصاء الحقائق ومراقبة الموازين والمتغيرات.
الاتفاق النووي مع إيران كان من صنع إدارة الرئيس باراك أوباما ووزير خارجيته جون كيري. ولقد اختار هذان الرجلان التواطؤ مع إيران لأسبابهما الخاصة. أولا بالتفاوض معها سرا، بمعزل عن حلفاء الولايات المتحدة الآخرين. وثانيا، لأنهما قبلا الانخداع من أجل تمرير صفقات تجارية تلتهم ما تراكم من أموال إيران المحتجزة في الخارج. وثالثا، لكي يخففا من الضغط الذي كانت تتعرض له الولايات المتحدة في العراق مقابل ضمانات بحفظ مصالحها هناك.
ما حصل حتى الآن، هو أن الخديعة انكشفت، ولم يعد التواطؤ ممكنا، والموازين تغيرت، وبات الخطر واضحا ليس على دول المنطقة وحدها، بل وعلى سفن الولايات المتحدة وبوارجها حتى ولو كانت تمخر عباب المحيط الهندي. أما مصالح الولايات المتحدة في العراق فقد أصبحت عرضة للابتزاز والتهديد المتواصل. كما أن أمن إسرائيل أصبح واقعا تحت تهديد غابة من الصواريخ في سوريا ولبنان، دع عنك صواريخ إيران المباشرة، ومشروعها لإنتاج سلاح نووي، قد يقلب كل الموازين.
هذه متغيرات لا يجرؤ أي “مبعوث” أن يغض الطرف عنها. كما لا يجرؤ وزير الخارجية نفسه أن يتجاهلها. ولا أحد يفعل في أوروبا نفسها أيضا.
إدارة الرئيس بايدن تريد أن تعود إلى الاتفاق النووي. ولكنها لم تعد قادرة على تجاهل ما تشكله صواريخ إيران وتهديداتها لأمن الملاحة في الخليج وأعمالها المزعزعة للاستقرار في المنطقة.
الاتفاق النووي سقط، ليس بسبب انتهاكات إيران لالتزاماتها فيه، وإنما بسبب جرائمها الكثيرة الأخرى التي لم يعد غض الطرف عنها ممكنا. وهذا يعني أن تلك الجرائم هي التي تصادق على جدارة وجدية الشروط التي يتعين أخذها بعين الاعتبار في أي اتفاق جديد.
لقد تحوّل الاتفاق النووي إلى فضيحة. لأنه كان من الأساس فضيحة. ولأنه زاد من بعد توقيعه فضيحة على أخرى.
الملاحظة الثالثة، هي أن الانتقادات لمالي، مفيدة من جهتين اثنتين على الأقل. الأولى لكي تجبره على أن ينظر إلى موطئ قدمه مرتين، وتقول له إن ما كنتَ تفعله في الظلام انكشف على نور. والثانية، هي أنها تعفي من انتقاد الإدارة الجديدة مباشرة. وجود وسادة تتلقى اللكمات بصمت، هو الآخر دور مفيد.