بقلم: حسن منيمنة – الحرة
الشرق اليوم– الروهينغا مأساة في قلب مأساة. مصابهم مأساة، وحال وطنهم بورما مأساة. هم الأقلية، المتميزة دينياً وعرقياً. دينياً، حيث أن الغالب عليهم الإسلام، في بلاد تنبض بالبوذية. عرقياً، ذلك أن أجدادهم قد جاؤوا من البنغال المجاورة، قبل قرون طويلة. تباعدوا عن أنسبائهم، والذين يؤلفون اليوم بنغلادش، ولكنهم لم يذوبوا فيما أصبح وطنهم، بورما التي عمادها بوذية المعابد والرهبان.
قد لا تتفرد البوذية ببورما. والبوذية على أي حال ديانة صاهرة، تتلقف آلهة ما عداها وتتعايش معهم. بل هي بالأصل دون إله خاص بها. البوذيون لا يعبدون البوذا إلهاً، بل يجلونه على أنه قدوة في ارتفاعه إلى الفناء في الوجود الواحد. آلهة البوذيين المعبودة كلها مستعارة. قد يصح القول، من وجهة نظر وقائعية، إن الأديان كلها تقوم على الجمع والتلفيق، قبل إشهارها الأصالة والنقاء. إيمان أتباع معظم الأديان يقتضي نفي هذا القول والإصرار على نشأتها الغيبية من خارج التاريخ. أما الحال بالنسبة للبوذية فهو أنه لا حرج بأن تكون قائمة على التلفيق.
في اليابان، كهنة «الشنتو» أعانوها بـ «الكامي»، وهي كائنات ما بين الجن والملائكة والآلهة، وصبّؤوها بالشمس معبوداً أول، أسس الأسرة الحاكمة منذ آلاف السنين. في الصين، زاوجت البوذية كلام الطاوية وفقه الكونفوشيوسية لتكشف أنها تقوم مقام الطرق السلوكية الصوفية أولاً، واستوعبت صغار الآلهة، أشباه الأولياء، على الأرض وكبارهم، بما يحاكي آلهة التوراة والإنجيل والقرآن، في السماء. ولكنها، في بورما وتايلاند وسريلانكا، لم تكتفِ بطلب الحقيقة، بل خاضت في الشريعة والعقيدة.
وقد سبق لها أن تلاقحت مع الإسلام ضمن جملة الأديان الهندية المنشأ، في دولة التشامپا، حيث ڤيتنام وكمبوديا اليوم، وخلّفت جماعة الإمام سان، التي كاد الخمير الحمر أن يبيدوها بالكامل (وتركوا ما تبقى منها لتجتثّه جماعات الدعوة من الصوفية والتبليغية إلى السلفية). الروهنيغا بقوا على إسلامهم، الحنفي الصوفي. بقوا غرباء حيث حلّوا في بورما.
أذكر شباباً من الذين اضطروا إلى ترك أهلهم وهجر ديارهم ضمن ما عرف بثورة الطلاب في بورما قبل عقود. شباب مثقفون متشبعون بقيم الإنسانية والعالمية، يسعون ويدعون إلى الحرية والعدالة والمساواة. طاب سعيهم ودعوتهم. يريدون ثمار جهودهم لجميع أهل بورما وأعراقها وشعوبها وقومياتها. إلا الروهينغا. «ليسوا من بورما». كان ردهم على استغرابي، استهجانيا. «متى يصبح المرء ابن الأرض التي هي مسقط رأسه؟ جيل، جيلان، عشرة أجيال؟». الروهينغا تجاوزوا هذا التعداد، ولكنهم بقوا، حتى في عيون دعاة الحرية والعدالة «ليسوا من بورما».
إرحلوا يا هؤلاء إلى بنغلادش، والتي يقول أهلها عنهم، وهم على بعض اختلاف في الهيئة، في اللغة وفي العادات، «ليسوا من بنغلادش». بل خوضوا غمار البحار، ليصل بعضكم إلى مكة، إلى ديار رسولٍ صلاتكم عليه منعت إقراركم بمقركم، إذا صدقت المزاعم.
على أن جيرانكم، إخوتكم في الدين في مكة، وجلّهم من أصول ترحال وإن أشهر علم أنسابه، يقولون بدورهم «ليسوا من مكة»، ويتهمونكم بما أنتم وغيركم وهم وغيرهم عليه من سلوك، طلباً للعيش في عالم يجعل أكثر الطلب ملوّثاً.
حيثما أتيتم يا روهينغا، يا مستضعفين، لا ضعفاء، يا من تركوا أرضاً رواها آباؤكم عرقاً ودماً، أوليس من ينصفكم؟
لا إنصاف من آن سان سو تشي، الحائزة على جائزة نوبل للسلام، السيدة الرائقة الأنيقة المتكلمة العميقة، والتي تسابق العالم المتحضّر إلى إغداق التقدير والإعجاب والإجلال عليها يوم كانت في الإقامة الجبرية، ويوم فازت في الانتخابات، ويوم قدّر لها أن تصبح بموقع القيادة. جلجلتك يا سو تشي آلمتنا، وتأسَّفنا كل يوم حرمتِ فيه من كامل حريتك. على أنك، أيتها السيدة الفاضلة، يا من تنطق بالمبادئ والقيم والحقوق، لم يسعْكِ، في ساعة عزتك المشهودة، أن ترتقي إلى الحد الأدنى من احترام الذات، بأن تسمي الأشياء بأسمائها.
يوم دارت الأيام، وأصبحتِ بموقع قوة، لا أقول القوة كلها، ولكن بما يكفي لأن تكشفي عن خامتك، تجنّبتِ يا سو تشي أن تديني الاضطهاد والمجازر والاغتصاب والحرق والتعذيب والتشويه والقطع والهتك والترحيل، وما اقترفته أيادي جنود بلادك، وبما امتد إلى غير الروهينغا من المسلمين، بالمعية وحسب. بل وصفتِها بالحوادث المؤسفة، ورضيت بأن الثمن قد دفعه الجانبان.
فعلاً، يا سو تشي، لا بد من الإقرار للقاتل بأنه في القتل عناء. ثم أنك لست وحدك في هذا الشأن. إدارة «فيسبوك»، أبلغت مراراً أن التعبئة لأعمال العنف بحق الروهينغا والتنسيق لتنفيذها يمرّ عبر منصتها. فعلت قليلاً لتصحيح الأمر. قليلاً جداً، بما يرفع العتب. يبدو وكأن الإمكانيات لهذه الشركة التي تجمع الثروات الطائلة كل يوم نضبت عند عتبة بورما.
أحد الذين أوصلوا الرسائل إلى آن سان سو تشي، يوم كانت في الإقامة الجبرية، رسائل دعم وتأييد من إدارة الرئيس الأسبق، جورج دبليو بوش، إذ كان لهذه الإدارة الدور الرائد في السعي إلى فك قبضة حكم العسكر عن بورما، ميانمار، والسعي إلى إعادة حكم الشعب إليها، قال لي: “اعذرها. السياسة فن الممكن. قوتها واهية. لا يسعها أن تفرّط بها في حين أن الشعب لا يرى أن الروهينغا يستحقون الالتفاتة”. ربما. خيار السياسيات والسياسيين إذا كنّ أو كانوا من أهل المبادئ هو خيار صعب. جاهر، واخسر بالتأكيد. اضمر، عساك تربح، عساك تربح. آن سان سو تشي خسرت.
ربما أن آن سان سوتشي كانت تأسف لحال الروهينغا. ربما أنها كانت مصممة على إنصافهم في الوقت المناسب، يوم يستتب لها الأمر فعلاً، يوم تتمكن من الارتقاء بشعبها ليدرك “أنهم من بورما”. إحسان الظن بالسيدة قد يدعو إلى هذا التوقع. ولكن كفى. لا هي أمسكت بيد مواطنيها على درب الارتقاء هذا، ولا هي أقرّت للروهينغا بحقوق غيّبت عنهم. وها هي اليوم قد أعادها ساجنوها، قتلة الروهينغا، إلى إقامتها الجبرية، لتعود معها صيحات الاعتراض من العالم على مصيرها ومصير العملية السياسية في بورما. الغضب للقيد المتجدد على حريتها أعظم بأقدار من الاعتراض على دمار حياتكم يا روهينغا.
بورما هذه للصين فيها نفوذ وتصورات وتوقعات. بورما هذه، فيها طبقة أعمال جديدة تتواصل مع نظيراتها في الشرق والغرب، بمن فيهم العرب والعجم والترك. الروهينغا، كما الأويغور، من المسلمين. ليس دينهم ما يزعج الطغمة الحاكمة في بورما أو السلطة الشمولية في الصين، بل افتقاد هذه وتلك إلى الأدوات الناجعة لضبط هاتين الجماعتين وإلزامهما بالطاعة. في المقابل، ما يناسب الطغمة هنا والسلطة هناك هو أن التعاطف مع هاتين المجموعتين غائب في جوارهما، ومعتلّ تمام الاعتلال على ما يبدو في سائر العالم.
التعاطف مع الروهنيغا معتل حين تطلب الأسرة الدولية التي تشهر حقوق الإنسان من بنغلادش استقبال المهجّرين دون تصوّر لحل دائم، بما يؤسس لخلاف بين اللاجئين والمواطنين ويجعل من شباب الروهينغا عرضة للتعبئة والتضليل، ومن شابات الروهينغا مادة للاتجار. وهذا التعاطف أكثر اعتلالاً حين يكون من جانب بعض من يتذكرهم “لأنهم مسلمون”، إذ سرعان ما يكتشف حماة بيضة الإسلام أن دين الروهينغا “قبوري”، مفعم بالسحر وعبادة الأولياء، ليصبح شرط الالتفات إليهم “تصحيح” إيمانهم وسلوكهم، أي بتبديله لما يرضي من يعتقد حيازة صيغة يفترضها أصلية للدين.
رغم أن آن سان سو تشي كانت قد فازت بالانتخابات، فإن المؤسسة العسكرية لم تسلّم لها السلطة إلا شكلياً، وبقيت هي القوة الفعلية. تبدّل الحسابات، محلياً ودولياً، دفع الطغمة إلى العودة إلى الواجهة، وإلى إخماد ملهاة حكم الشعب.
ملهاة تخفي خلف الستار مأساة لوطن مجزأ مقسّم يراد له أن ينهض على قياس نخبة طارئة، وعلى حساب مصلحة عموم مواطنيه. آن سان سو تشي، والتي ربما لا تزال ضمير هذه الأمة، تستحق التعاطف والتأييد والسعي إلى إخلاء سبيلها وتمكينها من التقدم ببلادها. على أن هذا الضمير يستحق كذلك أن يستفيق، وربما أن يستيقظ معه الوجدان العالمي، إزاء مأساة الروهينغا، والتي تخفيها مأساة بورما، ولا يفيدها اختزالها بمظلومية جامعة خارجة عنها.
ربما أن في ذلك طلب الكثير وتوقع المرجوح. عالم اليوم يعاني من التشظي والتشتت. القيم العالمية وحقوق الإنسان موضع طعن وتهكم في المعارك الغيبية الدينية والسياسية. الانتصار هو للآلهة وللحضارات، لا للإنسان. شعب بورما ليس مهماً. والروهينغا أقل منه أهمية. حتى إشعار آخر.