بقلم: راغدة درغام – النهار العربي
الشرق اليوم- تعمل الدبلوماسية الإيرانية على حشد الدعم الروسي والأوروبي والصيني للضغط على إدارة جو بايدن لاستئناف الصفقة النووية JCPOA، بتفعيل تلقائي بلا شروط مسبقة، وبرفع فوري لكل العقوبات المفروضة على إيران، لا سيّما في القطاع النفطي ومنع طهران من استيراد الأسلحة، بالذات من روسيا. دبلوماسية وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف ليست منفصلة عن السياسة الرئيسية التي يصوغها مرشد الجمهورية ويصقلها “الحرس الثوري الإيراني”، المسؤول فعلياً عن صنع السياسة الخارجية، بل إنها تعتمد قاعدة الاستفزاز والابتزاز رهاناً منها على ما تعتبره حاجة ماسّة للرئيس الأميركي الجديد جو بايدن لإلغاء انسحاب الولايات المتحدة من الصفقة النووية بقرار من سلفه دونالد ترامب، وذلك خوفاً من استئناف طهران تخصيب اليورانيوم وامتلاك السلاح النووي سريعاً.
الدبلوماسية “الظريفة” توجّهت الى موسكو بطلب المساعدة في حشد الأوروبيين وراء مواقفها، وحصلت على مواقف لافتة من وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، ليس فقط في الشأن النووي، بل أيضاً في الشأن الإقليمي على نسق الأدوار الإيرانية في سوريا ولبنان. الأوروبيون متشوّقون لاستعادة أدوارهم في إحياء الصفقة النووية، وقد تراجع بعضهم عن الحديث عن ضرورة إدخال تعديلات تتعلّق بالصواريخ وبالسلوك الإقليمي الإيراني على صفقة JCPOA، وهو يريد إصلاح العلاقات الثنائية مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية. روسيا منخرطة ليس فقط من أجل إيران بل أيضاً من أجل سوريا، وهي حريصة جداً على علاقاتها مع إسرائيل في الملفين السوري والإيراني، ولذلك هي تُبحر ببالغ الحذر. أما الفريق المعني بالملف الإيراني في إدارة بايدن الجديدة فإنه يتشاور ويدرس تداعيات الاستراتيجية الإيرانية نحوه ونحو المنطقة، بعضه يرفض الهرولة وبعضه الآخر يوافق على أن يبدأ الحديث مع إيران بصورة “خاصة” و”غير مُعلنة” في مباحثات سرّية تشبه ما تمّ في عُمان على أيادي رئيس الاستخبارات المركزية الحالي بيل برنز ومستشار الأمن القومي جايك سوليفان، وأدى الى الصفحة الجديدة في العلاقات الأميركية الإيرانية والصفقة النووية. وهناك كلام عن قطر كبديل لعُمان في إطار استضافة هذه اللقاءات المغلقة بعيداً من الأضواء، إن كان على مستوى المسؤولين الرسميين في إدارة بايدن أو عبر أفرادٍ مقرّبين منهم يُفترض أن يتولّوا لاحقاً وقريباً مواقع مهمّة في الإدارة الجديدة.
أثناء زيارته موسكو هذا الأسبوع حصل ظريف من لافروف على موافقة روسيا على مد الدعم الكامل للعودة التلقائية الى الصفقة النووية بلا شروط مسبقة ومن دون إعادة التفاوض على عناصرها أو ملاحقها، حسبما أكدت مصادر وثيقة الاطلاع. ما أراده ظريف هو: أولاً، دعم موقف طهران لما هو “عودة بسيطة” simple return الى JCPOA، وثانياً، رفع كامل العقوبات قبل العودة الى الصفقة النووية. رسالته انطوت على الإنذار بأنه في حال عدم تحقيق التقدّم في هذا الشأن مع حلول منتصف شباط (فبراير) المقبل، فإن إيران في وارد تغييرٍ في مواقفها والبدء بمرحلة جديدة من تخصيب اليورانيوم. هكذا ترفع السقف وتضع إدارة بايدن تحت الضغوط الصارمة، وهكذا تطوّق التفكير داخل إدارة بايدن بأن المجال مفتوح لرفع العقوبات خطوة بخطوة، بالتتالي، وليس كرزمة. وقد أوضحت طهران موقفها هذا علناً ورسمياً عبر سفيرها لدى الأمم المتحدة، ماجد تاخت رافانشي، والذي أكد أن على الولايات المتحدة أن “تتصرف بسرعة” must act quickly قبل أن تفوتها فرصة للعودة الى JCPOA. يُذكر أن البرلمان الإيراني حدّد موعد 21 شباط (فبراير) المقبل كموعدٍ أخير لرفع الإدارة الأميركية العقوبات عن إيران.
ما طلبه ظريف من لافروف هو “الضغط الجماعي” على واشنطن عبر التواصل، ليس فقط مع وزير الخارجية الأميركي انطوني بلينكن، بل أيضاً عبر وزراء خارجية 5+1 إشارة الى الدول الموقّعة على الاتفاق النووي: الصين وبريطانيا وفرنسا وألمانيا، الى جانب الولايات المتحدة وروسيا. ما أبلغه اليه أن هناك فرصة شهر أو أقل “للمرونة” الإيرانية إذا برزت مؤشرات تجاوب من قِبَل واشنطن في غضون أسبوعين، وطهران في الانتظار لامتحان القدر الذي يستطيع الرئيس بايدن من “المرونة” الأميركية.
بكلامٍ آخر، طهران تريد كل شيء اليوم وليس غداً، وهي مقتنعة بأن بايدن سيكون مضطراً لتلبيتها، لأن إحياء الصفقة النووية بات مشكلته وليس مشكلتها، وأن في وسعها الانتظار بأدوات التصعيد التي تمتلكها. طهران تريد أيضاً “ضمانات” أميركية بعيدة المدى في أن لا مجال إطلاقاً في المستقبل لمنع إيران من استيراد الأسلحة، وهي عازمة على صفقة كبيرة مع روسيا. ودبلوماسية ظريف الأوروبية تنطوي على بعض الحقد من مواقف أوروبية في عهد ترامب والعزم على تلقين الدرس الفارسي – لمن لا يحفظ – وفي يدها التخويف والرعب من أوراقها النووية والتخريبية أوروبياً وفي كامل الشرق الأوسط.
قبل الخوض في المواقف الأميركية نحو الاستراتيجية الإيرانية، وعودةً الى المحادثات بين لافروف وظريف، نقلت المصادر الوثيقة الاطّلاع أن الوزيرين تحدّثا عن سوريا ولبنان وعن المواقف الإسرائيلية من الأمرين. اتفقا على محاولة إحياء عملية “آستانا” لسوريا في غضون شهر بين أطرافها، روسيا وإيران وتركيا، وبحسب المصادر، أبلغ لافروف الى ظريف أمل موسكو بأن تعمل إيران على “لجم تركيا في سوريا كي لا تكون تركيا مُهيمنة هناك”.
في ما يخص لبنان، أكّد ظريف الموقف الإيراني المصرّ على استمرار “الإشراف” supervising الإيراني على لبنان، باعتباره حجراً أساسياً في “المعادلة الأمنية” لموازين القوى الإقليمية. طلب ظريف من لافروف الضغط على إسرائيل كي لا تقوم بخطوات عسكرية ضدها، محذّراً من أن طهران ستضطر للرد. لافروف من جهته طلب من ظريف أن يضمن ألا يقوم “حزب الله” باستفزاز إسرائيل أو التحرّش بها.
مصادر أميركية تولّت مناصب رسميّة في إدارة ترامب نقلت عن مواقف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو والمؤسسة الإسرائيلية أن المسألة النووية هي موقع اهتمام إسرائيل الأساسي للغد، أما اليوم، فإن الأولوية هي للدور والوجود الإيراني في سوريا وللصواريخ الإيرانية في لبنان وسوريا. قالت هذه المصادر إن دور الرئيس السوري بشار الأسد “يعتبر ثانوياً مقياساً مع أولوية إخراج إيران من سوريا في أسرع ما يمكن”، في الحسابات الإسرائيلية.
أضافت المصادر أن دور إيران في سوريا هو جزء مما سيسمعه قائد القوات الأميركية المركزيّة الجنرال كينيث ماكنزي أثناء زيارته إسرائيل، خصوصاً بعدما أصبحت إسرائيل عضواً في مظلّة الدول التابعة للقوات الأميركية المركزية، ما شكّل نقلة نوعية أتت نتيجة سياسات ترامب في صوغ العلاقات العربية – الإسرائيلية الأمنية. فالجنرال ماكنزي بات مسؤولاً عن المنطقة بِرُمّتها، وزيارته إسرائيل ستكون استطلاعية وفائقة الأهمية، لا سيّما في زمن البحث عن الفرص المواتية إقليمياً – إيرانياً وإسرائيلياً وعربياً. والتحديات كبيرة.
من المرتقب في الأيام المقبلة تعيين بايدن مبعوثه لإيران وهو روبرت مالي المثير للجدل حتى داخل فريق بايدن، بسبب الاعتقاد أن ميوله إيرانية وتشوقيّة لإحياء الصفقة النووية الإيرانية تلقائياً برفع العقوبات واستبعاد المفاوضات على الصواريخ والسلوك الإيراني الإقليمي، من اليمن الى العراق، الى سوريا فلبنان. المعارضون لروبرت مالي يخشون ليس فقط من انحنائه أمام إيران نوويّاً برفع للعقوبات، بما يمكّن “الحرس الثوري” من تنفيذ أجندته الإقليمية، وهؤلاء ينظرون الى التداعيات بالذات على سوريا كمصدر قلق. فأولوية مالي في عهد الرئيس الأسبق باراك أوباما كانت دوماً إيرانية بامتياز، بما في ذلك على حساب سوريا، بغضّ النظر عن المجازر وتمزيق البنية التحتية الإنسانية.
حتى وزير الخارجية أنطوني بلينكن تحفّظ على “الفشل” والأخطاء التي ارتكبتها إدارة أوباما في سوريا، وليس هناك ما يؤشِّر إلى استعداده للتهاون مع بشار الأسد والعقوبات ضده أو على أدوار الحرس الثوري و”حزب الله” في سوريا. وفي مقالة له عام 2019 قال إننا “في سوريا كنّا على حق في محاولة تجنّب عراق آخر بعدم القيام بالكثير، لكننا فعلنا العكس وارتكبنا خطأ القيام بالقليل”. بريت ماغرك Brett MeGurk الذي يتولى الآن المنصب الذي شغره روبرت مالي في إدارة أوباما، منسّق الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي، لا يوافق على توسيع الدور الأميركي في سوريا، وكان قد دعا عام 2019 الى التركيز على أمرين هما: الخطر الإيراني على إسرائيل، ومحاربة “داعش” في سوريا.
لا يريد بلينكن أن يترك سوريا لإيران وروسيا ولا لتركيا، ويتردد في الأوساط الإعلامية أنه ينظر في تعيين الدبلوماسي المخضرم جيفري فيلتمان كمبعوث خاص لسوريا. وحسبما يبدو، أن سوريا ستكون المحطّة المباشرة لتداعيات ما تقرره إدارة بايدن في شأن العلاقة الأميركية – الإيرانية.
يتمهّل بلينكن ولا يهرول، وهذا مفيد للمصلحة الأميركية التفاوضية كما للأمن القومي الأميركي، لأن الهرولة على وقع الإملاءات الإيرانية توقع الولايات المتحدة بين أنياب الابتزاز والاستفزاز. فليس خطأً أن يوافق أنطوني بلينكن وجايك سوليفان على مباحثات تمهيدية وراء الكواليس مع إيران، شرط أن تكون شرحاً للتوقعات وخريطة طريق وليس مفاوضات سريّة تخضع فيها إدارة بايدن للخوف من أنماط الانتقام الإيرانية.
إنها فرصة إذا صاغت إدارة بايدن استراتيجية اللاخوف من الانتقام، وإذا استدركت أخطاء الماضي، وإذا ذَكّرت نفسها بأن في أياديها أدوات التأثير الحقيقية والفعلية، بما فيها البناء على إنجازات الإدارة السابقة، مهما كرهتها، حفاظاً على المصالح الأميركية والأمن الإقليمي.