بقلم: محمود حسونة – صحيفة الخليج
الشرق اليوم- وكأن ما حدث للعراق منذ 2003 لا يكفي، وكأن قدر هذا الشعب أن يعيش في رعب من أفعال الإرهاب، وخوف من أعمال الميليشيات، وقلق من دفع ضريبة الصراع على أرضه، بين أمريكا وإيران، وأحياناً تركيا، وعدم ثقة بنزاعات سياسييه الذين فاحت رائحة فساد بعضهم السياسي والمالي والإداري، ولا يريدون للدولة صلاحاً ولا استقراراً حتى لا تنضب البئر التي يغترفون منها، ولا يريدون للشعب أن يأخذ حقه، ولا أن ينفض عن نفسه غبار السنوات العجاف.
بعد أن تفاءل العراقيون، وتفاءلنا معهم، بالقضاء على «داعش» واسترداد الأرض المغتصبة منه، وبعد أن صمتت أصوات التفجيرات المفخخة والانتحارية التي ظلت تتجول في الأحياء والطرق والأسواق ودور العبادة، منذ الاحتلال الأمريكي، عاد التنظيم الإرهابي بانتحارييه إلى قلب بغداد، الخميس قبل الماضي، ليحصد أرواح الأبرياء.
عاد ليقول للعالم من قلب عاصمة الرشيد إنه ما زال موجوداً، وبعد أقل من 72 ساعة من فعلته الشنيعة، قام بعملية انتحارية ثانية في محافظة صلاح الدين، ولم يكتف بما قتله خلال العمليتين؛ بل استخدم سلاح الشائعات لمزيد من الترهيب بادعاء وجود 15 انتحارياً جاهزين للتفجير داخل بغداد، مع بث مقاطع فيديو ومقاطع صوتية تُهدد وتتوعد سكان العاصمة بمزيد من العمليات الانتحارية، وهي مقاطع قديمة استخرجها من أرشيفه، بهدف إثارة الذعر في الناس، وخلق حالة من الفوضى السياسية.
ثلاث سنوات عاشت فيها بغداد حالة من الهدوء، كانت بالنسبة للإرهابيين هدنة لإعادة تنظيم أنفسهم، وابتداع أساليب أكثر قذارة لخداع الناس، وبعد استغلال الدين في أقبح عمليات الإرهاب عبر التاريخ، كان استغلال مشاعر الناس هذه المرة لقتلهم، فقد تظاهر الانتحاري الأول بتعرضه لأزمة صحية في «سوق البالة»، وتجمع حوله أهل النخوة والشهامة لإنقاذه ففجر فيهم نفسه، وخلال تجمع الناس لإنقاذ الجرحى ونقل القتلى، جاء الانتحاري الثاني ليفجر نفسه وسطهم، وفي هذه المرة لم يقتل «داعش» الأبرياء، فقط، ولكنه قتل الإنسانية والشهامة، ولن يكون من السهل في ما بعد أن يجد أي إنسان تعرض لأزمة صحية طارئة في مكان عام، مَن يُنقذه؛ لأن تلك العملية المنحطة زرعت الشك بين الناس وأفقدتهم الثقة ببعضهم بعضاً، وللأسف نعيب على زماننا قلة النخوة والشهامة العربية، بينما العيب في مَن انتهجوا طريق الإرهاب، واتبعوا شيطان العنف من أبناء جلدتنا الذين يستهدفون العراق من أعداء الداخل والخارج، ولا يريدون عودة عراق العلم والحضارة والتاريخ.
ولعل قرار رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي إجراء انتخابات نيابية مبكرة في يونيو/حزيران المقبل، قد قضّت مضاجعهم، وأثارت مخاوفهم من أن يفقدوا مواقعهم النيابية وسلطتهم السياسية التي تتيح لهم النهب والتخريب والإفساد، كما أن إقرار الرئيس برهم صالح بفشل منظومة الحكم منذ عام 2003، وتحذيره مما هو آتٍ إذا لم يُغيّر العراق نفسه، ويصّر على الابتعاد عن سياسة المحاور والتخندقات الدولية، أسهم في إشعال غضب عصابات «داعش» وميليشيات الموالاة للخارج وأصحاب المصالح، فكانت العودة للغة العنف التي لم تقتصر على أعمال «داعش» فقط خلال الأيام الأخيرة؛ بل أسهم فيها أعداء الداخل باستهداف مطار بغداد بصواريخ الكاتيوشا، رغبة في قطع أوصال الدولة مع الخارج.
ولعله ليس غريباً أن تتزامن عودة التفجير مع القصف ليكسرا الصمت الإرهابي، مع تولي إدارة بايدن المسؤولية في أمريكا، فالرسالة ليست للعراق وحده.
برهم صالح وضع العلاج للعراق عندما طالب ب«عقد سياسي جديد يؤسس لدولة قادرة ومقتدرة وذات سيادة كاملة»، فلا حل من دون دستور يتجاوز الطائفية ولا يعرف لغة «المحاصصة» ويرفع قيمة المواطنة على كل ما عداها من تصنيفات.
«داعش» وغيره من جماعات الإرهاب ستواصل قتل الأبرياء، وغيابها بعض الوقت لن يكون سوى هدنة أو إعادة تموضع، أو إعادة انتشار، ليس في العراق وحده، ولكن في أي مكان على الكوكب، ولن يضع لها نهاية، سوى تحالف جميع دول العالم لمحاربة التطرف سياسياً وعسكرياً وفكرياً.
أما محاولات الدول الفردية فلن تحقق الهدف، وسيظل الإرهابيون مثل الثعابين التي لا تموت إلا بقطع الرأس، فيتوقف فرز السموم والأفكار الهدامة.