بقلم: عبد الرحمن شلقم – الشرق الأوسط
الشرق اليوم- منظمة الأمم المتحدة الوليدة، كانت القابلة التي شهدت ولادةَ ليبيا، بل صنعت مهدَ البداية المبكرة والمتعسرة. الدبلوماسي الهولندي أدريان بلت، عيَّنته الأمم المتحدة في شهر ديسمبر (كانون الأول) سنة 1949 مفوضاً لها في ليبيا ليعمل على تأسيس دولة مستقلة موحدة بعد سنوات طويلة من الاستعمار والانقسام.
بعد هزيمة القوات الإيطالية والألمانية في العلمين وخروجها من برقة وطرابلس وفزان، أصبح كامل البلاد تحت سيطرة القوات البريطانية في إقليمي برقة وطرابلس، في حين صار إقليم فزان تحت السيطرة الفرنسية، وتقاسمت بريطانيا وفرنسا السيطرة على كامل الأرض الليبية. المبعوث الأممي أدريان بلت، كان دبلوماسياً وسياسياً، ومهندساً معمارياً له القدرة على رسم خريطة بناء دولة من أنقاض التاريخ ورغم أنف الجغرافيا. نجح أدريان بلت في مهمته شبه المستحيلة، ونجح في مساعدة الليبيين على تحقيق الحلم في إقامة دولة، وأضاف إنجازاً بتسجيل مذكراته التي وثّق فيها مسيرة تجسيد الحلم الصعب ولا نقول المستحيل. الأستاذ الدكتور محمد زاهي بشير المغيربي، أستاذ العلوم السياسية بجامعة بنغازي، أضاف إنجازاً وإبداعاً إلى تلك المذكرات بترجمتها إلى اللغة العربية في مجلدات أربع بأمانة علمية وتوثيق مرجعي ولغة سلسة ممتعة. اختار أدريان بلت لمذكراته الطويلة عنوان «استقلال ليبيا والأمم المتحدة حالة تفكيك ممنهج للاستعمار». عرض المؤلف، ملخصاً للتاريخ الذي عبرته ليبيا قبل الغزو الإيطالي لها سنة 1911، وما شهدته في ربوعها من مقاومة طويلة للاحتلال، وما قام به الليبيون من أجل إيجاد كيان وطني يعبّر عن هويتهم والاجتماعات المتعددة التي التقى فيها ممثلون لكل الأقاليم. بعد خروج القوات الاستعمارية الإيطالية تدافعت القوى المنتصرة في الحرب العالمية الثانية، إلى تحقيق وجود عسكري وسياسي لها في ليبيا، ولم تستسلم إيطاليا المهزومة عسكرياً عن أهدافها في استمرار وجود جاليتها الكبيرة في البلاد ومشاركتها في لعب دور سياسي في ليبيا الجديدة المستقلة.
في 15 سبتمبر (أيلول) 1948 انتقلت مهمة تحديد مصير المستعمرات الإيطالية السابقة من القوى الأربعة وهي فرنسا وبريطانيا والاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأميركية إلى الجمعية العامة، الهيئة التي لا يوجد بها حق الفيتو، وكانت تتكون من 58 عضواً يتخذون قراراتهم المهمة بأغلبية الثلثين على أساس المساواة في التصويت.
في البداية وضعت كل المستعمرات الإيطالية في ملف واحد، وهي، ليبيا والصومال وإريتريا، ولكن ليبيا حازت الاهتمام الأكبر من كل الأطراف الأربعة المنتصرة، أضف إلى ذلك اهتمام الدول العربية والإسلامية الأعضاء في الأمم المتحدة بالقضية الليبية وحماسها المشترك لاستقلال ليبيا وقيام دولتها الموحدة.
مساران حكما تطورات القضية الليبية، وهما في الخارج الاختلاف بين الأطراف الفاعلة دولياً على مستقبل ليبيا بين الوصاية والاستقلال، وفي الداخل الحوارات واللقاءات بين الأطراف الليبية حول شكل الدولة بعد تحقيق الاستقلال والصيغة الدستورية المقبولة من الجميع. برز اسم إدريس السنوسي مبكراً كشخصية وطنية لها وضع متميز في أنحاء البلاد. في 20 أكتوبر (تشرين الأول) سنة 1939 عندما اندلعت الحرب العالمية الثانية، اجتمع اللاجئون الطرابلسيون والبرقاويون في الإسكندرية وقرروا تسليم قيادتهم المشتركة للسيد إدريس السنوسي. وتشكَّلت بعد ذلك قوة ليبية شاركت القوات البريطانية في معاركها ضد قوات المحور. أبدت الحكومة البريطانية التزامات للأمير إدريس السنوسي حول مستقبل برقة، وطالب الطرابلسيون بالالتزامات نفسها مع تحفظهم على الإقرار بزعامة الأمير ادريس السنوسي. بعد هزيمة قوات إيطاليا والمانيا، دخلت القوات البريطانية إلى برقة وطرابلس بقيادة الجنرال مونتغمري والقوات الفرنسية إلى إقليم فزان بقيادة الجنرال ليكليرك وعاد إدريس السنوسي من المنفى إلى برقة في يوليو (تموز) 1943، ونادى الناس ببرقة مستقلة تحت حكمه. في المسار الدولي لم تتوقف الاجتماعات والاجتهادات بين الدول المهتمة بالشأن الليبي بما فيها من اختلافات وتفاهمات، وكان على أدريان بلت أن يكون حاضراً في المحورين الداخلي والخارجي. القوى المنتصرة الأربع كانت لها خططها حول الترتيبات الدولية والحسابات الجيوبوليتيكية لما بعد الحرب العالمية الثانية، وخاصة في منطقة البحر الأبيض المتوسط والذي تمثل فيه ليبيا مساحة لها حساسية خاصة. قام أدريان بلت بجولات في الأقاليم الثلاثة، والتقى بفعالياتها الاجتماعية والسياسية لتخليق رؤية عملية تمكنه من الشروع في إنجاز الخطوات الدستورية لإقامة الدولة المستقلة الموحدة. مُنحت برقة استقلالاً ذاتياً في 16 سبتمبر سنة 1949 من قبل بريطانيا، وكان ذلك خطوة مهمة في مسار قيام الكيان الليبي المنشود. في الجزء الرابع من المجلد الأول، يسجل السيد أدريان بلت انطباعاته عن الاستطلاعات التي أجراها في الأقاليم الثلاثة، وأولها استعداد عام وتوق إلى تشكيل دولة مستقلة وموحدة، وشعور واسع الانتشار وإن لم يكن إجماعاً يفضل إدريس السنوسي رئيساً للدولة. ثالثها هو استقطاب تدريجي للمشاعر حول مفهومين اثنين؛ الدولة الموحدة أم الدولة الفيدرالية.
في إقليم طرابلس كان الشعور السائد في المناطق الحضرية نحو دولة موحدة مركزية عاصمتها طرابلس. في برقة كانت هناك خشية من هيمنة طرابلس الأكثر عدداً ومن الوجود الإيطالي بطرابلس. في إقليم فزان كانت الرغبة في الاستقلال الذاتي بنفس قوة رغبة البرقاويين، مع الحرص على تجديد الارتباطات الاقتصادية القديمة مع سرت وطرابلس وجاذبية الرابطة الدينية مع السنوسيين دفعت تدريجياً إلى قبول فكرة ليبيا الموحدة.
واصل المفوض الأممي أدريان بلت رحلته في ليبيا عبر مذكراته التي سيفصلها في الأجزاء الثلاثة القادمة على طريق تحقيق الاستقلال وقيام المملكة الليبية المتحدة. في صفحات هذه المذكرات ما يجعلنا نقف عند ما يجري اليوم في ليبيا ودور الأمم المتحدة فيها حيث كانت قدر ليبيا منذ ولادتها. لقد كانت المنظمة الأممية حاضرة في ليبيا عبر العقوبات التي فرضتها عليها المنظمة الأممية وخاصة في قضية لوكربي، ثم في سنة 2011 واليوم في المسار السياسي الليبي الطويل على طريق تأسيس الكيان الليبي الجديد.