الرئيسية / مقالات رأي / جو بايدن بين الشعر والقديس الجزائري سان أوغسطين

جو بايدن بين الشعر والقديس الجزائري سان أوغسطين

بقلم: أمين الزاوي – اندبندنت عربية

الشرق اليوم- في مثل هذه الأيام الباردة إنسانياً، المحاصرة بالجائحة حيث أخبار الموت تفيض على وسائل التواصل الاجتماعي وعلى شاشات التلفزيون، حيث الرعب والحجر يحاصر الإنسان في يومياته، في مثل هذا الجو الكئيب يتخذ الشعر المسكين له مقعداً، كعادته، على طرف طاولة الثقافة والإبداع، منسياً كالعادة من قبل القراء والناشرين أيضاً، وهو الذي- الشعر- شغل الناس وملأ الدنيا وجوداً وحرّك حشود المسيرات والتظاهرات السياسية وهز ليالي العشاق، هو اليوم نسياً منسياً أو يكاد، ليس عند العرب والبربر فقط بل ولدى ما جاورهما من القوميات الأخرى من العجم.

لكن حفل مراسيم تنصيب الرئيس الأميركي السادس والأربعين، جو بايدن، أعاد الحديث عن الشعر، أعاد الشعر إلى الواجهة، ففي البلد الأقوى في العالم عسكرياً، يتم الاستنجاد بالشعر وهو الكائن الأكثر ضعفاً، كي ينفث الأمل في المواطن الأميركي ويحمي الوحدة الوطنية المهددة بالتفكك في هذا البلد الكبير. في هذا البلد النووي بامتياز يُستدعى الشعر ليكون القبة الحديدية ضد كل خطر نووي يهدد الولايات المتحدة، في حفل التنصيب هذا لم يجلس الشعر في ركن الطاولة، لقد تربع بكل ملوكية على المنصة التي تخطف الأنظار من كل أركان العالم، أهم منصة تابعها سكان الكرة الأرضية من دون استثناء.

في الوقت الذي يدير فيه عالم الثقافة والفنون وعالم السياسة ظهرهم للشعر، ها هي الولايات المتحدة التي تمر بأزمة سياسية ومؤسساتية وصحية غير مسبوقة على الإطلاق تنتبه للشعر وتطلب النجدة منه، تدعوه لإنقاذ ما بقي من الضمير الحي في البلد المقبل على فوضى سياسية وتنظيمية.

على المستوى الرمزي، في حفل تنصيب الرئيس الأميركي جو بايدن، وبدعوة تلك الشاعرة لقراءة قصيدة، وبغض النظر عن مستواها الجمالي وبعيداً من كل قراءة أدبية نقدية، كأن الأميركيين استعادوا ربط علاقتهم مع قيم احترام “الكلمة”، احترام أخلاقيات الكلمة الأدبية. وكأن الخطاب السياسي، العبارة السياسية الفجة والمباشرة، لم تعد تكفي لقول ما يجب قوله، لإقناع من يجب إقناعهم وبشكل أخلاقي.

أما نحن ورثاء الشعر في العالم العربي وفي شمال أفريقيا، أحفاد وأبناء أمقران الشعراء السي أمحند أومحند وكاتب ياسين وآيت منقلات، ومفدي زكريا وجان عمروش وجون سيناك وبشير حاج علي… ألسنا مطالبين اليوم بإعادة النظر في طبيعة علاقتنا الثقافية والروحية والسياسية بالشعر؟

كتبت الشاعرة والروائية ربيعة جلطي على صفحتها في “فيسبوك” تعليقاً على حضور الشعر في حفل تنصيب جو بايدن ما يلي: “المستر بايدن يختار إلقاء الشعر في حفل تنصيبه، الشعر ديوان الأميركان”.

نعم العرب الذين يعتقدون بأنهم أمة الشعر بامتياز، وأن الشعر هو ديوانهم، كتابهم قبل أي كتاب آخر، أذنهم وذوقهم وحافظ لغتهم ومسجل أيامهم وتواريخهم، هم الآخرون ابتعدوا عنه، أداروا له ظهرهم، لم يعودوا يحتفلون به كما كانوا، انتهى زمن الأمسيات الشعرية التي كانت تشبه مباراة كرة القدم من حيث الحضور، أمسيات كانت تقام في ملاعب كرة القدم، لقد نسوا أو تناسوا شعراءهم: امرؤ القيس وجرير وبشار بن برد وعمر بن أبي ربيعة والمتنبي والحلاج وابن زيدون والنفري والشريف الرضي ونزار قباني وسعيد عقل ومحمود درويش…

هل سيغير حضور الشعر على منصة الاحتفال بتنصيب الرئيس الأميركي السادس والأربعين جو بايدن من موقع الشعر ومن صورته في الانتباه الثقافي العالمي؟

القديس سان أوغسطين الجزائري في حفل التنصيب

وفي هذه المناسبة نفسها، أي في حفل التنصيب، وفي أول خطاب للرئيس الأميركي جو بايدن للأمة الأميركية والعالم برمته، لم يجد سيد البيت الأبيض من كلام بليغ وحكمة راقية للتعبير عن دفاعه عن قيم الإنسانية والوحدة سوى الاستشهاد بأقوال القديس سان أوغسطين (354-430)، ابن الجزائر، ابن مدينة طاغاست (مدينة سوق أهراس حالياً في الشرق الجزائري)، المدينة التي عرفت أول جامعة في تاريخ أفريقيا، جامعة مداوروش، والذي توفي بمدينة عنابة، ابن الجزائر الذي نسيه أحفاده وأحفاد أحفاده، وهو صاحب مؤلفات لا تزال تقرأ حتى اليوم بقوة وتدرس في أكبر الجامعات العالمية في أركان المعمورة كلها، في الفلسفة وفي الاجتهاد الديني وفي اللاهوت، في كل عام يتم إعادة نشر كتبه في كل لغات العالم وبالأساس “اعترافات” و”مدينة الله”.

إذا كان الرئيس الأميركي الجديد جو بايدن وهو قائد أقوى دولة قد وجد في أفكار الفيلسوف الجزائري سان أوغسطين ملاذاً للطمأنينة ودعوة بالغة للسلام والمصالحة، ففي الجهة الأخرى، في الجزائر بلد هذا المفكر يتم محو اسمه من المقررات المدرسية، نسيانه في كل البرامج التلفزيونية واقصاؤه من النقاشات الفلسفية والدينية والفكرية والأدبية.

بالعودة إلى أفكار سان أوغسطين الجزائري واستحضارها في خطاب التنصيب، وهو ما يؤكد بأنها لا تزال أفكاراً راهنية في مساءلة واقعنا السياسي والأخلاقي والفلسفي العالمي المعاصر، يكون الرئيس الأميركي الجديد جو بايدن قد قدم دعوة لنا نحن أبناء وأحفاد هذا المفكر أولاً، ولو بشكل غير مباشر، لإعادة مد جسور المصالحة مع تاريخنا، مع ذاكرتنا، مع أسمائنا.

إن تاريخ الجزائر عامر بأبنائه وبناته من أمثال سان أوغسطين، سان دونا، وأبوليوس أب الرواية العالمية والملك العالم جوبا الثاني والكاهنة سيدة الأوراس ويوغرطة والآخرين الذين تركوا أثاراً مهمة على الفكر الإنساني وعلى الفلسفة العالمية والآداب والاجتهاد الديني.

من دون شك، فأبناء سوق أهراس، مسقط رأس سان أوغسطين، أو عنابة حيث يرقد جثمانه اليوم، فخورون بأن واحداً منهم، من أجدادهم، يستشهد بآرائه في البلد الأكثر قوة في العالم، لكن هل ستستعيد الجزائر واحداً من مفاخرها؟

أمام هذا التنصيب ومع خطاب الرئيس جو بايدن وهو يشيد بأفكار المفكر سان أوغسطين ابن سوق أهراس، فإننا ندرك كم هي مريضة ذاكرتنا الجماعية بثقوبها وكم تعاني الذاكرة من عنف الغربلة الماكرة، وهي تقوم بالتمييز والاختيار المنكر، وهو ما تعيشه الجزائر اليوم.

لا يمكننا التخلص من أمراض الغربلة الأيديولوجية الماكرة إلا بالمصالحة الشاملة مع تاريخنا بكل تنوعه وثرائه، كي نؤسس لمستقبل يحتفل بالتنوع والتسامح والعيش المشترك، والتخلص النهائي من وسواس الهوية القاتل والمزمن.

شاهد أيضاً

أوكرانيا

العربية- عبدالمنعم سعيد الشرق اليوم– فى العادة فإن الاستدلال عن سياسات إدارة جديدة يأتى من …