بقلم: د.وحيد عبدالمجيد – صحيفة “الاتحاد”
الشرق اليوم – تحتاج الولايات المتحدة في بداية فترة رئاسة جو بايدن أكبر مقدار ممكن من الحكمة والاعتدال والتسامح في التعامل مع أعمق أزمة داخلية تواجهها منذ أزمة إنهاء العبودية في منتصف القرن التاسع عشر.
فقد وصل الانقسام السياسي الاجتماعي إلى أعماق المجتمع الأميركي، وصار مصدراً لتهديد بالغ الخطر يقل بجواره أي خطر خارجي، سواء أكان صينياً أم روسياً أم غيرهما، لأن تمزق النسيج المجتمعي يُضعف أي دولة مهما تكن قوتها. وقد لا يؤدي إصرار كثير من قادة الحزب الديمقراطي على الانتقام من الرئيس السابق دونالد ترامب، عبر الاستمرار في إجراءات محاكمته أمام مجلس الشيوخ بعد انتهاء فترة رئاسته، إلا إلى ترسيخ هذا الانقسام ومضاعفة التهديد المترتب عليه.
ويرغب بعض خصوم ترامب، بل كثير منهم، في استغلال الخطأ الكبير الذي وقع فيه عندما دعا أنصاره إلى التظاهر أمام مبنى الكابيتول في يوم تصديق مجلسي الكونغرس على نتيجة الانتخابات الرئاسية، وشحنهم بخطابه الحماسي، ثم لم يدعُهم لتجنب العنف قبل أن يقتحموا المبنى. وهذا خطأ لا يُختلف على أنه كبير، لكن استغلاله بعد أن أصبح ترامب في وضع أضعف بكثير من أي وقت مضى، والذهاب إلى أبعد مدى في الانتقام منه والسعي إلى “إعدامه سياسياً”، لن يُفيد المنتقمين في شيء، بل سُتصيب ويلاته الجميع، وسيُلحق خسارةً كبيرةً بصورة الولايات المتحدة وقوتها ومكانتها في العالم.
يحق لمن يعتقدون أن ترامب مسؤول عن اقتحام مبنى الكابيتول أن يطلبوا محاسبتَه ويقدموا أدلة حقيقية تدعم هذا الاتهام. لكن مجلس الشيوخ ليس المنصة الملائمة لهذا النوع من المحاسبة، فضلاً عن وجود خلاف دستوري على حقه في محاكمة رئيس سابق عاد مواطناً أميركياً عادياً، بل القضاء الذي ينظر في أي ادعاء ضده على أساس قانوني وليس سياسياً. أما إذا تمكنوا من ضبط انفعالاتهم، وهو ما كانوا يطالبون ترامب به خلال فترة رئاسته، فربما يجدون أن طي هذه الصفحة أفضل للجميع، ولمصلحة الولايات المتحدة. لكن هذا يتطلب تغليب المصلحة القومية على المشاحنات والصراعات الحزبية والسياسية.
والحال أن ترامب ليس مجرد رئيس خسر الانتخابات، ولم يتمكن من الحصول على فترة رئاسة ثانية، بل يمثل ظاهرة تضم ملايين الأميركيين الذين لا يمكن إسكات أصواتهم عبر السعي إلى إخراجه من الساحة السياسية بشكل كامل، إمعاناً في الانتقام منه.
وسواء بقى كل مَن اقترعوا لمصلحة ترامب في الانتخابات الرئاسية الأخيرة (74 مليوناً و223 ألفاً) مؤيدين له حتى النهاية، أم انصرف عنه بعضهم، فسيظل ملايين كُثُر شوكة في حلق الإدارة الجديدة ما لم يتمكن أركانها من وضع حد لدوامة انتقام قد يتعذر الخروج منها، ثم معالجة تداعياتها، بدون خسائر كبيرة. ويستطيع الرئيس بايدن أن يفعل الكثير في هذا الاتجاه إذا توفرت لديه الإرادة اللازمة، ووجد أن مصلحته تقتضي أن تتفرغ إدارته لمواجهة مشاكل بالجملة كل منها أكثر أهمية من الانتقام من ترامب.
ويتطلب هذا تذكر أن ترامب ليس من صنع الأزمة السياسية العميقة التي بدأ الرئيس الجديد فترتَه الرئاسية في أوجها، وأن هذه الأزمة سبقت عام 2016 بكثير، وتفاقمت تدريجياً، بل يجوز القول إن انتخاب ترامب كان نتيجة تراكمات هذه الأزمة التي دفعت عدداً كبيراً من الأميركيين إلى اليأس من النخبة التقليدية، وصولاً إلى البحث عن رئيس من خارجها. فقد بدأت مقدمات أزمة النظام السياسي الأميركي مع انهيار الاتحاد السوفييتي السابق وتفكك معسكره، حيث أدى الشعور المفرط بالقوة والثقة في النفس إلى استرخاء انعكس في جمود هذا النظام وعدم قدرته على تجديد نفسه.
ويعرف الرئيس بايدن، أو بإمكانه أن يعرف، المدى الذي بلغه إخفاق المؤسسات السياسية في تلبية تطلعات قطاعات كبيرة من الأميركيين، بعد أن صارت عاجزة عن التجدد وضخ دماء جديدة في شرايينها التي تزداد انسداداً. وهذا هو المقصود في الأدبيات السياسية بالجمود الذي يؤدي إلى انفصال قطاعات متزايدة من المواطنين عن النخبة عندما يزداد انغلاقها على نفسها، ويصبح عدد كبير من أركانها قادرين على اتقان فنون الفوز في انتخابات الكونجرس على المستوى الفيدرالي، كما على صعيد الولايات، مما يؤدي إلى تفريغ الديمقراطية من محتواها.
وأزمة هذا طابعها يتطلب الشروع في حلها عقولا مفتوحةً ومهيأةً لحوار وطني جدي، وليس عقولاً مغلقة تسيطر عليها رغبة في الانتقام أياً تكن تداعياته المجتمعية والسياسية.