بقلم: تال إلياشيف – صحيفة “الخليج”
الشرق اليوم – يبدو أن العالم اليوم على أعتاب سباق تسلح من نوع خاص؛ قوامه التقنية الرقمية ورأس حربته التمويل الرقمي. أما كبار اللاعبين فيه فهم المؤسسات المالية المهيمنة في العالم والبنوك المركزية العالمية.
وتفرض حتمية انتشار التشفير في الأنشطة العالمية على البنوك المركزية الكبرى صك عملة رقمية خاصة بكل بنك حريص على حماية سيادة الدولة من الوهن أو الاختراق. ومن هنا جاءت مسارعة كل من الصين وهونج كونج وتايلاند والاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة والولايات المتحدة وأستراليا، إلى إصدار أنظمة رقمية لاحتواء عملاتها الرقمية في إطار تقنيات “بلوك تشين”.
وقد فرضت العملات الرقمية حضورها على أنشطة الحكومات المختلفة مثل الأمن وسلاسل التوريد والرعاية الصحية وتجارة التجزئة والتجارة الإلكترونية.
ومن المؤكد أن عملات البنوك المركزية ستصبح وسيلة التعامل الجديدة بين الدول خاصة في المدفوعات وتسوية الصفقات والتجارة، لا سيما عندما يتعلق الأمر بالتجارة العالمية، حيث صارت المدفوعات عبر الحدود أبسط وأرخص بكثير.
لقد فرزت تجارب التاريخ الفائزين عن الخاسرين بعامل الزمن فمن سبق فاز. من الواضح أن الولايات المتحدة كانت قوة مهيمنة خلال الثورة الصناعية الأولى. وبينما يشرع العالم في رحلة تحولية، هناك “سباق تسلح” في التقنية المالية مكثف يختمر بين القوى العظمى في العالم للهيمنة على البنية التحتية للتمويل الرقمي والتكنولوجيا، مما يحفز الابتكار التنافسي قصير الأجل مع تداعيات خطيرة طويلة الأجل.
وقد أوضح ديفيد ماركوس، رئيس مشروع “دييم” للعملات المشفرة الذي تديره شركة “فيسبوك” في بيان مقدم إلى لجنة البنوك في مجلس الشيوخ الأمريكي أنه إذا لم تقد أمريكا الابتكار في مجال العملة الرقمية والمدفوعات، فإن هناك من يتولى القيادة.
خلال سباق الفضاء بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي السابق، قامت “ناسا” بتسخير رأس مال فكري وتقني هائل لتمكين الهبوط على سطح القمر واستكشاف الفضاء، ما أدى إلى مجموعة متنوعة من الاختراعات العرضية، من أنظمة تحديد المواقع العالمية “جي بي إس” إلى التقدم في تكنولوجيا الطيران. وبنفس الطريقة، فإن تقنية التمويل الرقمي القائمة على تقنية “بلوك تشين” هي وسيلة لتحقيق قدر أكبر من التطور التكنولوجي.
تنفذ نسبة 80% من البنوك المركزية في العالم خططاً لصك إصداراتها الخاصة من العملات الرقمية، لكن الصين والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي هي التي تمتلك الموارد والتكنولوجيا والبنية التحتية لتحديد مستقبل الاقتصاد الرقمي. وقد شهد عام 2020، نقلة نوعية في عالم التمويل الرقمي عندما أصدر المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس، مجموعة أدوات مساعدة لواضعي سياسات العملات الرقمية للبنوك المركزية.
وتختبر الصين حالياً اليوان الرقمي ضمن نظام يسمح بإرسال الأموال ببساطة عن طريق الهواتف الذكية. هذا الجهد الخاص هو مجرد واحد من العديد من تجارب العملات الرقمية التي تجريها الصين في جميع أنحاء البلاد. وتضاف هذه الأنشطة المنسقة إلى قيادة الصين أنشطة العملات المشفرة عالمياً، حيث تمثل ما يقرب من 90% من أحجام التداول وتستضيف ثلثي عمليات صك “بيتكوين”، ما يمنحها ميزة تفوق واضحة.
ومنحت الصين اليوان الرقمي أولوية قصوى، ولديها هدف طموح يتمثل في التنافس مع الدولار الأمريكي من خلال إنشاء بديل آسيوي رقمي. وسوف تكون الصين قادرة على تتبع ومراقبة حركة الأموال داخل وخارج البلاد، وهو أمر أسهل بوجود اليوان الرقمي. ونظراً لطبيعة نظامها السياسي، فإن الصين قادرة على التحرك بشكل أسرع من الولايات المتحدة أو أوروبا في تنفيذ مثل هذه التغييرات.
أما الولايات المتحدة فقد حافظت على ريادتها في ابتكار وتنظيم وتنفيذ الأوراق المالية الرقمية القائمة على تقنيات “بلوك تشين”، والخدمات المصرفية، والمدفوعات، والتأمين، وما إلى ذلك، وقد لا تكون بعيدة عن إصدار عملة رقمية خاصة ببنكها المركزي. وقد قطعت أشواطاً في مجال البيع بالتجزئة والأمن السيبراني وإدارة سلاسل التوريد رقمياً.
ولا يعد إصدار عملة رقمية للبنك المركزي السيادي مجرد تغيير تقني، ولكنه أيضاً تجديد لنظام مالي عمره قرون. ويتعين على صانعي السياسة في الولايات المتحدة الاستمرار في تعزيز القيادة الأمريكية في مجال الابتكار المالي التكنولوجي وضمان تمتع الشعب الأمريكي بفوائده أولاً.
لا شك أن من يقود هذا السباق ويحدد نتيجة بنيته التحتية وأدوات تشغيله سوف يكتسب القدرة على قيادة العديد من الابتكارات الأخرى التي ترتبط بهذه التقنية. وقد عرض تقرير على الكونجرس حجم الهوة التي تفصل بين الولايات المتحدة والصين في هذا المجال حيث توضع الاستراتيجية المناسبة لإحداث التوازن على الأقل قبل فوات الأوان.