بقلم: موسى برهومة – صحيفة البيان
الشرق اليوم- كشفت جائحة «كورونا» عن أجمل وأقبح ما في البشر، ولأنها حدث رهيب جالب للويلات، نرجو ألا يتكرر، فقد أضحت حقلاً للأسئلة الفلسفية والأخلاقية عن الكينونة والوجود، وعرّت ما انطمر في أعماقنا من هواجس عنصرية ومخاوف، فردية أو جماعية، عن اللجوء إلى الخلاص الذاتي، بغضّ النظر عن مصائر البشر الآخرين من حولنا.
وبعد أن حصد الفيروس ضحايا أكثر مما حصدته الحروب، وبعد أن عصف بأكبر الاقتصادات في العالم، وخلّف جيوشاً من فاقدي الوظائف والعاطلين عن العمل، اهتدى العلماء، الذين يشتمهم بعض مدعي التدين باعتبارهم كفاراً لا يستحقون التهنئة بعيد الميلاد المجيد، إلى لقاحات تلجم الفيروس وتهزمه، خرج علينا، في الموجة الثانية من «الجهل» الاجتماعي، من يزعم أنّ اللقاحات لها على المدى البعيد آثار جانبية مدمّرة، وبالتالي لا يستوجب أخذها!
ولأنّ الخرافة تنتعش في المجتمعات، التي أقفلت عقلها بالأصفاد والمتاريس، فإنّ الفتوحات العلمية، وعبقرية المختبرات، وبراعة الجامعات العالمية، لا تعني شيئاً، لا سيما إذا لم يتم التعامل بحزم مع هؤلاء الذين أرادوا أن ينشقوا عن السياق العام، مستنكفين عن أخذ اللقاحات، التي جرّبها زعماء الدول ورؤساؤها وملوكها، في رسالة مفادها أنها آمنة، ولا سبيل أمام البشرية لاجتياز هذه القنطرة المرعبة إلا باللقاحات.
الأدهى من ذلك أن يتم ربط الممانعة ضد أخذ اللقاح، بمزاعم دينية أو ثقافية، حيث يتم عبر الـ«واتسآب» خصوصاً، تداول معلومات مضلّلة بأن اللقاحات تحتوي على الكحول أو مشتقات حيوانية، ما يجعل جماعات دينية أو عرقية تتخذ مواقف متطرّفة ضد تلقي اللقاحات.
وعلى الرغم من أن ثمة إجماعاً علمياً بخلو هذه اللقاحات مما يزعمه المعارضون لها، وأن لا آثار جانبية لها، كما يروّج أصحاب نظرية المؤامرة، إلا أن هناك من يتعامل مع الشائعات والأخبار المفبركة باعتبارها حقائق وثوابت علمية جازمة.
في ضوء ذلك، يتعيّن أن تكون هناك قوة إلزام؛ لدفع الجميع لتلقّي اللقاح، حيث تتوخى هذه القوة الغايات المقاصدية النبيلة، التي تحول دون تمكين أفراد أو جماعات أقلويّة من خرق السفينة الجمعيّة الكبرى في عُرض البحر.
هنا يبرز سؤال الأخلاق بمعناه الفلسفي، الذي عبّر عنه هيغل حينما اعتقد أن أداء الواجب الأخلاقي غايته قيام الدولة القوية، التي يرى أنها «التجسيد الفعلي للفكرة الأخلاقية». وشغل الواجب الأخلاقي الفيلسوف كانط، الذي لخّصه بعبارته الشهيرة: «افعل بحيث تُعامل الإنسانية في شخصك، وفي شخص كل إنسان سواك، بوصفها، دائماً وفي الوقت نفسه، غاية في ذاتها، ولا تعاملها أبداً كما لو كانت مجرد وسيلة»، فيما يرى في سياق آخر من كتابه «أسس ميتافيزيقا الأخلاق» أنّ على الكائن العاقل أن يطبّق القانون، كما لو أنه هو الذي وضعه، بإرادته الحرة الخيّرة.
وفي الوقت ذاته، دعا الفيلسوف سبينوزا إلى الخضوع الكامل لقانون الطبيعة وضرورتها، ما يعني في المحصلة الأخيرة لآراء ثلاثة من أبرز الفلاسفة، الذين عالجوا الأسئلة الأخلاقية والسلوك الإنساني، أن على الدول، باعتبارها مالكة قوة الإلزام، لا القسر، أن تفكر في جعل لقاح «كورونا» إلزامياً، ما دامت تؤمن بأن هذا الإجراء غايته الخير، الذي يصبّ في خدمة الكائن الإنساني المنتسب إلى الجماعة الأخلاقية، التي تتعالى على أفكارها ومعتقداتها الخاصة، لمصلحة حماية البشرية من الأذى والشرّ.
وفي ظني أنّ هذا الأمر لا يتعارض مع الدين أو الشرائع، ولا يتصادم مع الحرية، التي تنتهي عندما تبدأ حرية الآخرين، الذين هم، في هذا السياق، الجماعة الإنسانية، التي ترى أنّ اللقاح هو خشبة الخلاص الوحيدة الممكنة، للتحرر من شبح الموت والبطالة ومكابدات الفقدان وغياب الأمان النفسي والاجتماعي، أليس كذلك؟