بقلم: طوني فرنسيس – اندبندنت عربية
الشرق اليوم- لا تبدو روسيا ما بعد الاتحاد السوفياتي مرتاحة في مناخات التحالف التي أقامتها في الحيز “الأوراسي”، العزيز على قلبها، ولا في الدوائر الأخرى إقليمياً ودولياً. في كل هذه المستويات تبدو كمن يدور حول نفسه، من دون إنجاز يذكر، فيما يستمر خطابها الذي يجعل الولايات المتحدة الأميركية خصماً أول، على حاله، وكأن العداء لأميركا حاجة تاريخية لتبرير الحضور على المسرح الدولي، أو بالنسبة نفسها تبرير لاستمرار السلطة القائمة في موسكو، نهجاً وأساليب.
كان من المفهوم أن يحتدم العداء الأيديولوجي بين روسيا السوفياتية (الاتحاد السوفياتي) بوصفها الطليعة الدولية للنظام الاشتراكي البديل عن النظام الرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة. وكان طبيعياً أن يتخذ الصراع بين معسكر الاشتراكية والمعسكر الرأسمالي أشكالاً عدة تتسم بالتنافس الشديد على المستوى الفكري الفلسفي والعلمي، انعكست انقساماً على المستوى العالمي وداخل كل بلد.
ولم يوفر الجانبان فرصة إلا واغتنماها لتعزيز مواقعهما، عبر دعم كل منهما القوى التي يعتبران أنها تنسجم مع رؤية كل منهما للعالم. وعلى الرغم من الحرب الباردة بين المعسكرين، التي اندلعت بعد اقتسام العالم في أعقاب الحرب العالمية الثانية، فإن أي حرب مباشرة لم تندلع بين الطرفين. بقيت الصدامات في إطار العمليات السرية، وحتى في الحرب الكورية أرسل ستالين أسراباً من الطائرات الحربية لمواجهة الأميركيين رفعت أعلام كوريا كيم إيل سونغ ومنع على طياريها التحادث بلغتهم الروسية.
الانقسام الأيديولوجي انتهى منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، ومعه الحزب الشيوعي السوفياتي. انتقلت روسيا سريعاً إلى نظام رأسمالي متوحش، يشبه في بعض تجلياته الهجمة على الذهب في الغرب الأميركي (القرن التاسع عشر)، ومع تولي فلاديمير بوتين السلطة منذ عقدين دخلت روسيا طريقها الخاص إلى الرأسمالية، الذي بذلت في وصفه جهوداً كثيرة، إلا أنه في اختصار طريق رأسمالي وجزء من النظام العالمي المتنوع للرأسمالية… الذي تقوده الولايات المتحدة!
لم تدخل الولايات المتحدة يوماً في صراع مسلح مباشر مع روسيا. لا في زمن القياصرة ولا في مرحلة الاتحاد السوفياتي. وفي المقابل خاضت روسيا السوفياتية الحرب ضد النازية جنباً إلى جنب مع أميركا. كان أعداء الروس من جيرانهم. سبقت غزو نابليون لأرضهم حروب مع السويد، وعلى امتداد القرن التاسع عشر خاضت روسيا القيصرية سلسلة حروب دامية مع السلطنة العثمانية، ومع بلاد فارس، وحتى مع فنلندا… وفي هذه الحروب وطدت سيطرتها على القرم وسواحل البحر الأسود على حساب العثمانيين وانتزعت أرمينيا وأذربيجان الشمالية وأجزاء من القوقاز من الفرس.
في مطلع القرن العشرين خاضت حرباً خاسرة مع اليابانيين (1904- 1905) وكان عليها انتظار سلطة البلاشفة لتستعيد سلطتها على فلاديفوستوك والسواحل الشرقية لسيبيريا. ثم جاءت المعركة الكبرى ضد الغزو الألماني النازي قبل أن يستقر شكل العالم على ما استقر عليه منتصف القرن الماضي.
كان العدو أوروبياً أو آسيوياً، فلماذا يثقل الروس تاريخهم بإعطاء الأولوية للصراع مع أميركا؟
قد يكون الجواب في خشية الروس من توسع نفوذ حلف الأطلسي إلى حدودهم الغربية، وبسبب العقوبات الأميركية نتيجة ضم شبه جزيرة القرم، أو لما تعتبره موسكو تحريكاً أميركياً لـ”الثورات الملونة” في نطاق نفوذها التقليدي، وآخر هذه الثورات في بيلاروس، والآن في روسيا نفسها، حيث تحشد السلطة قواها ضد تحركات المعارض نافالني.
أمنيات تفتت أميركا
لكن تدقيقاً بكل قضية من هذه القضايا يضعها في حجمها الحقيقي ويفتح أبواباً لحلها، وهو ما يفترض أن يسعى إليه الطرفان اللذان يعتبران أبرز دولتين في تحمل المسؤولية عن مصير العالم. فتوسع الأطلسي قضية أوروبية في الأساس، ومشاكل القوقاز مسألة تنافس مع تركيا (حتى القرم يطالب بها أردوغان). ومآلات الأوضاع في آسيا الوسطى يشارك في صنعها الإسلام السياسي التركي والإيراني. يعرف المسؤولون الروس هذه الوقائع، ولا بد أن تكون التطورات الأميركية الأخيرة، وانتقال السلطة بسلاسة وفي الوقت المحدد، على الرغم من محاولة الانقلاب عبر الهجوم على الكابيتول، في صلب مداولات هؤلاء المسؤولين، فالنظام الديمقراطي الأميركي خرج صلباً من التجربة، فيما كان محللون روس مقربون من السلطة يتنبؤون، في معرض التمني، بانهيار هذا النظام وتفتت الولايات عبر حرب أهلية مدمرة.
لقد انتهت مرحلة دونالد ترمب التي ارتاح إليها حكام يشبهونه، وترك الرجل إرثاً في السياسة الخارجية، بعضه سيتم محوه، والبعض الآخر سيُبنى عليه. ألغيت قراراته بشأن الخروج من مؤتمر المناخ ومن منظمة الصحة العالمية، وستعود أميركا إلى علاقاتها الطبيعية مع الحلفاء، وإلى تواصل مثمر مع روسيا “الخصم الشريك” على حد قول الإدارة الجديدة.
العلاقة موضع الامتحان
وفي الشرق الأوسط تحديداً ستكون العلاقات الروسية الأميركية موضع امتحان. فبينما كانت روسيا تدور حول نفسها طوال سنوات بين إيران وتركيا، في سوريا وعلى حدود القوقاز، كانت أميركا ترمب تسهم في رسم الحدود المقبلة لدور إيران في المنطقة، وتضع تركيا أردوغان على رف الانتظار وتشجع العمل العربي الخليجي الموحد، وكلها مداميك في سياسة يستحيل أن تخرج عنها إدارة جو بايدن، وتوفر أساساً لعمل مشترك يفترض بروسيا أن تنخرط فيه بفاعلية، فهذا هو دورها وهو ما تنتظره منها شعوب المنطقة.
روسيا ليست بعيدة عن المنطقة، والجميع يذكر زيارة بوتين للسعودية والمباحثات المهمة بينه وبين الملك سلمان وولي عهده الأمير محمد بن سلمان وتطور العلاقات بين البلدين في مجالات عدة، خصوصاً في إطار أوبك. ويحوز الدور الروسي في سوريا رضاً عربياً معلناً أو مكتوماً، كما أن مبادرة روسيا بشأن أمن الخليج تنتظر التفعيل انطلاقاً من احترام حقوق الدول والشعوب.
وفي الشأن الفلسطيني، تحافظ موسكو على علاقات ودية مع إسرائيل والفلسطينيين، ما من شأنه أن يرسي توازناً في أي بحث عن حلول، تتعدى الشأن الفلسطيني إلى الشأن السوري، حيث ينتظر هذا البلد العربي لحظة إنقاذه من حروب الوكالات الأبدية.
لقد قدمت الخارجية الروسية نهاية عام 2020 جردة بالنشاط الروسي على المستوى الدولي، ومن يستعرض هذه الجردة يكتشف على الفور ضحالة الحضور الروسي الذي كان أحد أبرز إنجازاته مؤتمر دمشق للنازحين والتشجيع على مفاوضات في ليبيا، وتعداد الاجتماعات التي عقدت في إطار دول البريكس ومنظمة شانغهاي.
اليوم تتوفر فرص مدخلها المشرق العربي، ولن يتم ولوج هذه الفرص من دون تعاون بين الدولتين الكبيرتين، وهو تعاون يمكن أن يمتد إلى نقاط أخرى، ويخرج العلاقات الدولية من خنادق المواجهات غير المفهومة.