الرئيسية / مقالات رأي / فن تحويل الخرائط إلى أوراق

فن تحويل الخرائط إلى أوراق

بقلم: غسان شربل – الشرق الأوسط

الشرق اليوم- قال الرئيس علي عبد الله صالح: «الآن وقد انتهينا من الحوار، أريد أن أطرحَ عليك سؤالاً: لماذا يصرُّ بعض اللبنانيين على القيام بأدوار تفوق قدرات بلدهم؟». وأضاف: «معلومات أجهزتنا الأكيدة أنَّ شباناً من الحوثيين يذهبون إلى سوريا ويتم إدخالهم إلى لبنان من دون إشارات على جوازاتهم، ثم يعودون إلى سوريا بالطريقة نفسها. وتؤكد المعلومات أن هؤلاء يذهبون في دورات عقائدية إلى الضاحية الجنوبية من بيروت، ويتابع بعضهم تدريبات عسكرية في البقاع». وقال: «إذا كنتم ستلعبون هذا النوع من الأوراق لن يبقى لبلادكم أصدقاء في المنطقة. أنا لا أريد إثارة الموضوع علانية في الإعلام حالياً، لأنه موضوع إيراني قبل أن يكون موضوعاً يتعلق بـ(حزب الله) لديكم، وسأطرحه في الوقت المناسب. لكن لماذا تتضررون أنتم بسبب أدوار من هذا النوع؟».

كان ذلك في الأسبوع الأخير من مارس (آذار) 2009 وكان علي صالح يستعد للتوجه إلى الدوحة للمشاركة في القمة العربية، حاملاً قدراً من العتب على ليبيا وقطر بسبب «تعاطفهما» مع الحوثيين، على حد قوله.

عاد إلى بالي كلام علي صالح، وأنا أقرأ تحليلات تفيد بأنَّ الحرب في اليمن لا يمكن أن تتوقف قبل التوصل إلى صيغة تتعلق بالعلاقات الإيرانية – الأميركية في عهد جو بايدن. ويشدد بعض المحللين على أنَّ الجانب اليمني لن يكون حاضراً في المساومات المعقدة، التي قد تجرى في قاعات تفاوض معلنة أو مغلقة على أطرافها ومن دون إعلان.

وتذكرت أيضاً كلام علي صالح، لأنَّ لبنان يدفع فعلاً اليوم ثمن ممارسات التدخل في شؤون دول أخرى، والقيام بأدوار تسليح وتدريب تتعلق بخرائطها، ومن دون أن يكون للبنان أي حق في التدخل فيها. توقّع علي صالح أن يدفع لبنان ثمن اضطلاعه بدور الوكيل في صراع يفوق حجمه وقدراته.

والحقيقة أنَّ ما لفتني أكثر هو نجاح الهجوم الإيراني في المنطقة، وخصوصاً بعد اقتلاع نظام صدام حسين، في تحويل مجموعة خرائط إلى مجرد أوراق يستطيع المفاوض الإيراني أن يحركها في الطريق إلى طاولة التفاوض مع بايدن أو على تلك الطاولة.

قال السياسي العراقي: «علمتنا التجارب ألا نسرف في الأوهام. لدينا حكومة تقوم بمحاولة جدية لاسترجاع مرتكزات الدولة. محاولتها تشبه السير في حقل الألغام. عليك أنْ تتقدَّمَ بخطوات بطيئة وترسخ ما تحصل عليه ثم تعاود التقدم. أدمنت الفصائل تقاسم الدولة وسلطاتها وخيراتها، ولن تتراجع ببساطة عن هذه الفرصة الذهبية التي لا تتكرر. الانتخابات قد تعطي مشروع الدولة فرصة لالتقاط الأنفاس، لكنها لن تحدث انقلاباً».

وأضاف: «نحن لا نكذب على أنفسنا ولن نكذب عليك. العنصر الحاسم في مستقبل العراق ليس داخلياً على الإطلاق. وللأسف لن نكون على الطاولة. نخشى أن يكون مستقبل العراق مجرد موضوع على طاولة المفاوضات الأميركية – الإيرانية التي قد تنطلق في عهد بايدن على طريق إحياء الاتفاق النووي وترميم مفاعيله. يتحدث الأميركيون والأوروبيون حالياً عن ضرورة التعامل أيضاً مع ملفي الصواريخ الباليستية والسلوك الإقليم لإيران. يساورني اعتقاد أن إيران قد تقدم تنازلات في برنامجها النووي، لكنَّها ستحاول التمسك بمكاسبها الإقليمية في الدول العربية التي نجحت في الإمساك بقرارها تقريباً».

هذا الكلام ليس بسيطاً على الإطلاق. إنَّنا لا نتحدث عن دولة هامشية شحيحة الموارد ومضطرة إلى بيع قرارها للحد من وطأة الفقر. إنَّنا نتحدث عن دولة غنية كان يمكن أن تكون نموذجاً في التقدم، لولا التسلط والمغامرات، وبعد ذلك سوء الإدارة وانحسار فكرة الدولة. ينكسر قلب العربي حين يقارن مثلاً بين أوضاع الاقتصادين العراقي والإسرائيلي. وحين يقارن بين ثقل إسرائيل لدى واشنطن وموسكو والعواصم الكبرى، واستمرار بغداد عاجزة عن بناء علاقات دولية قوية، لأنها يجب أن تستوفي أولاً شروط المعبر الإيراني. وها هي إسرائيل استجمعت المزيد من الأوراق العسكرية والدبلوماسية قبل محاورة إدارة بايدن، فيما يتم استنزاف الحكومة العراقية بالصواريخ التي تستهدف المنطقة الخضراء أو السفارة الأميركية، وقبل ذلك مشروع ترميم الدولة، الذي تحاول حكومة مصطفى الكاظمي التمسك به.

وإذا كان الوضع الإيراني في سوريا معروفاً للقاصي والداني، فإنَّه في لبنان أيضاً لم يعد يحتاج إلى دليل. في لبنان فضيحة مدوية وبأجراس. يصطاد الوباء المواطنين القابعين بمعظمهم تحت خط الفقر وتستمر الكراهيات سيدة الأحكام. من حق الرئيس ميشال عون ألا يحب رئيس الحكومة المكلف سعد الحريري، وأن يحاول أن يخوض ضده معركة كان يشتهي خوضها ضد والده، لكن ما ذنب اللبناني المقهور لكي يدفع ثمن كراهية الرئيس للرجل الذي اختاره المجلس النيابي وكلفه تشكيل الحكومة؟

أعرف أنَّ العماد عون ليس رجلاً عاطفياً. وليس سراً أنَّه لا يحب الحريري وبري وفرنجية وجنبلاط وجعجع وكثيرين، وأنه يتهمهم بالكيد لفتى الجمهورية جبران باسيل و«حقه الطبيعي» في الإمساك بالقصر. لكن ما ذنب اللبناني العادي ليعيش بلا حكومة، فيما يموت المواطنون على أبواب المستشفيات أو يتضورون في منازلهم؟ وكيف يقبل عون أن يكتب أنَّ لبنان تفكك وتحلل في عهده؟

وتبلغ المهزلة أقصاها حين تعثر على من يصارحك أنَّ الحكومة لن تشكل قبل اتضاح العلاقات بين واشنطن وطهران، وربما ليس قبل أن يقدم بايدن ضمانات حول مستقبل «فتى الجمهورية» الذي عوقب في عهد سلفه. يا للهول.

من صنعاء إلى بيروت مروراً ببغداد ودمشق تعلق الأزمات على حبل بايدن. نجحت طهران في اختراق الخرائط لا بالجاذبية الثقافية أو الاقتصادية، بل بالحسابات المذهبية والصواريخ والمسيّرات والميليشيات. وكانت النتيجة تحويل الخرائط إلى أوراق.

شاهد أيضاً

مع ترمب… هل العالم أكثر استقراراً؟

العربية- محمد الرميحي الشرق اليوم– الكثير من التحليل السياسي يرى أن السيد دونالد ترمب قد …