بقلم: حسن إسميك – النهار العربي
الشرق اليوم – تميل غالبية مراكز البحوث، والأميركية منها على وجه الخصوص، إلى الاعتقاد بأن الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي لن يكون أولوية بالنسبة إلى الرئيس جو بايدن.
إن صحت هذه التكهنات، سيكون ذلك خطأ يجب ألا ترتكبه الإدارة الأميركية الجديدة، لأنها اليوم أمام فرصة تاريخية، ليس فقط لإعادة إحياء عملية التفاوض، وبث دماء جديدة في عروقها، وإعادة السلام إلى مدينة السلام، القدس، بل أيضاً لإنهاء الصراع وبناء سلام حقيقي، شامل ودائم، يلبي طموحات الولايات المتحدة وحلفائها والفلسطينيين. ونحن الآن أمام جيل جديد من الشباب العربي الذي أصبح يفهم تاريخه بعمق، ويدرك جيداً صعوبة العثور على حلول لمشاكل منطقتنا، ويتطلع إلى توفير بيئة وطنية وإقليمية مواتية للأمن والسلام لتوفير فرص العمل، بما يؤمن للشباب الشعور بالطمأنينة للمستقبل.
شكّلت مدينة القدس، على مرّ العصور، مُلكيَّة ثمينة، وتنازع كثيرون حولها وعليها ومن أجلها، منذ أن هاجر إليها الكنعانيون العرب وبنوا على أرضها أول حضارة في الألف الثالث قبل الميلاد، وأطلقوا عليها اسم “أورساليم” وتعني مدينة الإله ساليم (إله الغسق عند الكنعانيين) أو مدينة السلام.
سميت هذه المنطقة من شرق المتوسط بـ “أرضَ كنعان” سابقاً، أما اسم “فلسطين” فقد منحها إياه “الفلسطينيون الأصليون”، وهم شعب بحري هاجر إليها حوالي القرن الثاني عشر قبل الميلاد، يقول عنهم الفيلسوف برتراند رسل في كتابه “حكمة الغرب”، إنهم “من بين (شعوب البحر) التي هددت مصر حوالي عام 1205 ق.م. وكان المصريون يطلقون عليهم اسم بليست Peliset وكان هؤلاء هم الفلسطينيون Philistines الأصليون الذين استُمدَّ منهم اسم الأرض التي استقروا فيها، وهو فلسطين”.
ثم توالت على حكم القدس شعوب مختلفة، فبعد اليبوسيين، وهم أحد بطون الكنعانيين، جاء الفراعنة واستولوا على المدينة بدءاً من القرن السادس عشر قبل الميلاد. في مطلع الألف الأول ق.م. استطاع الملك داوود عليه السلام احتلال المدينة، وأطلق عليها اسمه، وخلفه ابنه سليمان على حكمها. واستمر حكم اليهود للقدس حتى عام 586 ق.م. وبعد ذلك احتلها الملك البابلي نبوخذ نصر الثاني بعدما هزم آخر ملوك اليهود صدقيا بن يوشيا، ونقله ومن بقي فيها من شعبه أسرى إلى بابل، فيما عرف تاريخياً بـ “السبي البابلي الأول”.
ومرت على القدس، وفلسطين بعد ذلك، ثلاث حضارات: الفارسية واليونانية وأخيراً الرومانية، قبل أن يدخلها الخليفة عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، سنة 636 /15 هـ. بعد أن كتب مع أهلها “العهدة العمرية” الشهيرة.
وشهدت المدينة استقراراً ونهضة حضارية في زمن الإسلام الأول، لكنَّها لم تستمر طويلاً بسبب الصراعات ما بين العباسيين والفاطميين والقرامطة والسلاجقة، لتسقط بيد الصليبيين عام 1099. ثم عاد المسلمون فحرروها على مرحلتين: الأولى عام 1187م. على يد صلاح الدين الأيوبي، والثانية بقيادة الملك الصالح نجم الدين أيوب عام 1244م.
مرّ الغازي المغولي على القدس أيضاً، ثم استعادها المماليك، إلى أن دخلها العثمانيون واتبعوها إلى الولاية المصرية، قبل أن يؤسسوا متصرفية مستقلة للقدس. وظلت تحت حكمهم إلى حين سقوطها أواخر الحرب العالمية الأولى بيد بريطانيا التي بقيت تسيطر عليها، تحت مسمى الانتداب، حتى عام 1948 عند إعلان قيام “دولة إسرائيل” وعاصمتها القدس الغربية، ما أثار واحداً من أطول الصراعات في تاريخ السياسة الحديثة.
في كتابه “القدس المحاصرة: من كنعان القديمة إلى إسرائيل الحديثة”، يقول إيريك كلاين، أستاذ الكلاسيكيات والأنثروبولوجيا في جامعة جورج واشنطن، إن القدس “دُمرت مرتين على الأقل، وحوصرت 23 مرة، وتمّت مهاجمتها 52 مرة، وجرت استعادتها 44 مرة”.
عبر تاريخها الطويل المليء بالأحداث الجسام، تمثل القدس مدينة السلام قلب الأديان السماوية الثلاثة، لكنها لم تزل تبحث عن سلامها المنشود. ويُقال إنَّ سليمان شيَّد فيها الهيكل الأول، الذي دمره نبوخذ نصر، ثم بُني فيها المعبد الثاني الذي دمره الرومان عام 70 ميلادية. ولا يزال “جبل الهيكل” يحظى باحترام كبير لدى اليهود.
وتعتبر المدينة قدس أقداس المسيحيين، ففيها حوكم السيد المسيح من قبل بيلاطس البنطي بشبهة الكذب والتمرد، وعلى دروبها سار على “طريق آلامه” قبل صلبه، بحسب المعتقد المسيحي، وتؤدي ممرات مدينتها القديمة إلى كنيسة القيامة التي بناها الإمبراطور قسطنطين في القرن الرابع في الموقع الذي اعتبره مكان “قيامة” المسيح عليه السلام وانتقاله الى السماء.
أما بالنسبة للمسلمين، فهي “بوابة الأرض إلى السماء”، وأولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، وأهم المدائن بعد مكة والمدينة، ومن المسجد الحرام أسرى الله سبحانه بالرسول الكريم عليه الصلاة والسلام إلى مسجدها الأقصى ﴿الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ﴾ والذي يضم إلى جانبه مسجد الصخرة بقبته الذهبية في الصورة الأيقونية الأكثر شهرة للقدس.
من المهم التعرف على تاريخ المدينة هذا لأنه أصبح كما يبدو أساساً لفهمها دينياً. فقد كان توصيف من كان مسلما” أو يهودياً أم مسيحياً، يتغير في كل مرحلة، ونشبت صراعات بين الجماعات الإسلامية واليهودية والمسيحية فراحت الواحدة تحرّض ضد الأخرى، ما خلق عدوات مقيتة تعود إلى ذلك التاريخ. وأمام هذا المشهد القاتم لا بد من العمل على إطلاق دعوات إيجابية للاحترام المتبادل والتعاون بين هذه الديانات الثلاث انطلاقاً من الروحانيات التي تُقرّب بينها، فما يجمعها مثل: الإله، والخلق، والوحي، والبعث، والعبادات، وقصص الأنبياء والدعوة الى الأخلاق والقيم، هو من دون شك أكثر بكثير مما يُفرّق بينها.
لقد آن الأوان للتساؤل عن حكمة الله سبحانه وتعالى في جمع الديانات الثلاث في مكان واحد؟
يتطلَّبُ الصراعُ الفلسطيني – الإسرائيلي حلاً شاملاً ومستداماً، سلاماً ليس كـ “سلام أوسلو”، المليء بالفخاخ والقنابل الموقوتة، بل سلام ينهي الحرب ويفتح الباب على مصراعيه أمام الاستقرار والتعاون الإقليمي في الشرق الأوسط. ويصعب الحديث عن سلام دائم في المنطقة من دون أن تنضوي تحت لوائه فلسطين وسوريا ولبنان والعراق التي تجمعها أرض واحدة.
يرى البعض أن “مشكلة القدس” هي عائق رئيس أمام أي حل للصراع، سواء أكان حل الدولتين أم الدولة الواحدة أم الفيدرالية، نظراً إلى أهميتها الكبرى بالنسبة إلى طرفي النزاع، الفلسطينيين والإسرائيليين. لكن في المقابل يخلق هذا التحدي الكبير فرصة كبيرة، فالنجاح في الوصول إلى حل في القدس، لن يعني نجاحاً في فلسطين وإسرائيل فقط، ولكن في الشرق الأوسط كله. ويمكن بفضله أن نصنع نموذجاً جديداً لكيفية التعايش بين العرب واليهود معاً، كي يقفوا معاً في وجه الجماعات المتطرفة التي تحاول دائماً تأجيج الصراع من هنا وهناك، مستقبل الأجيال القادمة.
على الجميع، والجميع بلا استثناء، أن يلعبوا أدواراً بناءّة لبلوغ هذه الغاية النبيلة. فعلى الرئيس الأميركي الجديد أن يكون أكثر حكمة بالسعي إلى حل الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي وعدم الاكتفاء بإدارة هذا الصراع، واتخاذ قراراته على أساس قدسية الديانات الثلاث لا على السياسة وتقلباتها، التي أفرغت الكتب السماوية المقدسة من روحانيتها، والتي أنزلها الله على الرسل والأنبياء وخصنا بها دون غيرنا.
كما يجب أن تعود شراكة الأديان الثلاثة في هذه المدينة المقدسة “نعمة” بعد أن استحالت “نقمة”، ومن الضروري استثمار جميع الإمكانات التي يمثلها إعلان البلدة القديمة في القدس كأحد مواقع تراث عالمي أوردته اليونسكو على القائمة ذات العلاقة، وذلك بشكل أكبر وأنجع مما هو عليه اليوم. قد يتمثل الحل في وجود عاصمتين في مدينة واحدة مفتوحة تكون حرية الوصول إليها مصانة، أو عاصمة واحدة بإدارة مشتركة، أو أي حل آخر يمنح أتباع الديانات الثلاث الحرية الكاملة في ممارسة طقوسهم وشعائرهم وصون مقدساتهم. ويجب على أتباع كل دين أن يحترموا الأماكن المقدسة للآخرين، وطرق تفكيرهم ومعتقداتهم، وهذا دور يمكن أن يلعبه المجتمع المدني الإسرائيلي – الفلسطيني، فيعترف كل طرف بالآخر، ويتعرّف على تاريخه وتراثه وطريقة تفكيره ويتقبّل اختلافه ويتعايش معه.
القدس عاصمة الإنسانية، ومهبط الرسالات السماوية، فلا يحق لأحد أن يدَّعيها لنفسه، مهما طالت مدة سيطرته عليها أو قصرت. لقد أشارت كارين أرمسترونغ، الكاتبة البريطانية المتخصصة بالأديان المقارنة، في كتابها “القدس: مدينة واحدة، ثلاثة أديان”، إلى ما أراه حقيقة مثبتة حين قالت: “لطالما وجد اليهود والمسيحيون والمسلمون، على امتداد تاريخ القدس والأراضي المقدسة، أن أشخاصاً آخرين يحوزون عليها. كان عليهم جميعاً التعامل مع حقيقة أن المدينة والأرض كانتا مقدستين لأشخاص آخرين من قبلهم”. وتصيب الجوهر حين تشير إلى أن “المجتمعات التي استمرت أطول فترة في المدينة المقدسة، بشكل عام، هي المجتمعات التي كانت مستعدة لنوع من التسامح والتعايش”.
تختبر مجتمعاتنا اليوم، وفي مقدمتها المجتمع المقدسي، تحدي التسامح والتعايش، وبالتالي البقاء.
يقول التلمود البابلي “منَّ الله على العالم بعشر حفنات من الجمال، أهدى تسعاً منها إلى أورشليم والباقي إلى سائر العالم” (رسالة “قيدوشين”، 49:2). أما الطقس المسيحي فيقول “استنيري يا أورشليم الجديدة، فإن مجد الله قد أشرق عليكِ”. ومن جهته، ينقل الحديث عن ابن عباس أن الرسول (ص) قال “من أراد أن ينظر إلى بقعة من الجنة فلينظر إلى بيت المقدس”.
يجب على الجميع أن يعيدوا إلى هذه الأرض المقدسة حرمتها، فيوقفوا القتل وسفك الدماء، ويجدر بالسياسيين، عرباً كانوا أم إسرائيليين، أن يتوقفوا عن التصعيد والتحريض على العنف، وأن يعودوا إلى الحوار والتفاوض والبحث عن السلام، فمن منا لا يود العيش بأمان واطمئنان!
ليتذكر الجميع أن الله سيسألنا عن أعمالنا وما نقوم به من تهجير وقتل وظلم وتدمير، فالإنسان يحتل القيمة العليا في اليهودية والمسيحية والإسلام. لقد حان الوقت لإقامة العدل في المدينة المجروحة، وتحقيق التعايش بين اليهود والمسيحيين والمسلمين بسلام وامان. لقد عاش اليهود جنباً إلى جنب مع الفلسطينيين منذ أقدم العصور، فليس من الصواب الغاء وجودهم، أو طرد اليهود الفلسطينين من ارضهم التي سكنوها. لنترك جانباً سياسة الفعل ورد الفعل التي أذاقتنا الظلم والمعاناة والحرمان، والله رقيب على عباده جميعا ( إن الله كان عليكم رقيبا ) فالشعور بالتعالي والفوقية والغرور هو عند الله أحد أنواع ظلم الإنسان لأخيه الإنسان، وإذا ما كثرت مظالم البشر، حلت لعنة الله عليهم، “فالله يمهل ولا يُهمل”، ما يعني أن السلام هو بمثابة خشبة النجاة أمام شعوب المنطقة.
وإذا لم يستطيعوا بلوغه في المدى المنظور، فليبادروا على الأقل إلى وضع حجر الأساس لبنائه وذلك أضعف الإيمان، لتشيد عليه الأجيال القادمة من الفلسطينيين والإسرائيليين مستقبلاً من العدل والسلام والاستقرار والأمن، يصلي فيه اليهود والمسيحيون والمسلمون في القدس جنباً إلى جنب في سلام وطمأنينة، وينتشر إرثها الحضاري والروحاني في كلّ الأرض.
وإلى أن يحين ذلك الوقت … لأجلك يا مدينة السلام، نصلي.