الشرق اليوم- نشر مركز STRATEGIECS للدراسات والأبحاث، ورقة بحثية بعنوان: “مستقبل “الترامبية “.. في البنية المحلية الأمريكية”، تدرس حالة البنية المحلية الأمريكية؛ سياسياً واجتماعياً وأمنياً، على وقع الأحداث التي حصلت مؤخراً في أمريكا. كما تستشرف الورقة التحركات القادمة التي قد تنتهجها الشعبوية اليمينية المناصرة لترامب كوسيلة للتعبير عن ذاتها السياسية.
وجاء نص الورقة البحثية كما يلي:
تكمن إحدى معضلات التحليل في المجال السياسي كونه ليس سياسياً بصورة بحتة، وإنما يتأثر ويؤثر في الظروف الاقتصادية والاجتماعية والثقافية السائدة، مما يعني أن أي تحليل للواقع السياسي المحلي يجب أن يضع في اعتباراته هذه الظروف وبصورة ديناميكية حيوية، مع كل ما في هذه العملية التحليلية من تعقيدات، لا سيما إذا كان السياق متشابكاً ومتغيراً ومليئاً بالمفاجآت على غرار المشهد الحالي في الولايات المتحدة الأمريكية.
ولربما تكون مرحلة “ما بعد ترامب” إحدى أكثر المراحل التي ستشهد دراسةً معمقة قد تتبلور لتصبح حقلاً فرعياً تحت بند “Post – Trump Studies”. إلا أن نسْب التغيرات التي طرأت مؤخراً في البنية الاجتماعية السياسية الأمريكية إلى سياسات الرئيس ترامب ينطوي على مغالطة كبرى، ذلك أن ما جرى في السنوات الأربع الماضية ما هو إلا كشْف عن خلل متراكم لسنوات عديدة اتسعت فيها الهوة بين فئات من الشعب ترى أنه جرى تعمد إقصائها من قبل النخبة – على اختلاف توجهاتها السياسية – بصورة قلّصت من تمثيلهم في النظام السياسي وحدّت من قدراتهم الاقتصادية.
لذلك يمكن تصنيف التغيرات التي تجلت بوضوح في الداخل الأمريكي مؤخراً على أنها تحولات شعبوية، وهي التحولات التي استشرَفَ وقوعَها منذ سنوات طويلة عددٌ من الباحثين في علم الاجتماع السياسي، أي أنها تحولات “طبيعية” وتتماشى مع سياق متفاعل تداعت فيه كثير من العوامل الضاغطة على النظام السياسي والاجتماعي.
ولا يعني كونها “طبيعية” أنها مثالية أو سيترتب عليها آثار إيجابية، وإنما هي طبيعية من حيث اعتبارها نتاجاً طبيعياً متوقَّعاً لمسببات سابقة، فالشعبوية ليست طفرة غريبة بقدر ما هي إحدى الآثار الجانبية لمساري العولمة “Globalization” والرقمنة “Digitalization” اللذين أثّرا في كل مناحي الحياة وفي آلية التعاطي مع القضايا العامة.
ترتكز العولمة على إذابة الحواجز أمام تدفق الأفكار والسلع والخدمات بين دول العالم، كنتيجة لسيطرة النمط الديمقراطي الليبرالي على المنطق السياسي للدول الغربية وتوافقها على نسج تحالفات وفق الفكر الليبرالي كوسيلة لمواجهة تمدد الشيوعية في العالم.
وبزوال التهديد الخارجي المتمثل في الاتحاد السوفييتي، فإن العولمة فقدت بريقها في عيون كثير من الأمريكيين، حيث يعتبرها كثير من مناصري ترامب عبئاً يجب التخلص منه من أجل تسخير القدرات والطاقات نحو “أمريكا أولاً”، وتقليص الاهتمام بالعلاقات الدولية ما لم تكن في الصالح المادي الاقتصادي للشعب الأمريكي.
وقد مكّنت الثورة الرقمية الإعلامية المتمثلة في وسائل التواصل الاجتماعي جمهورَ الشعبويين من التفاعل المباشر فيما بينهم والتقوقع في صفحاتهم خلف رواية محددة للأحداث، وعادةً ما تكون هذه الرواية مغايرة لما تتداوله وسائل الإعلام الحريصة على الدقة والموضوعية والبعد عن الخطاب العاطفي الموجَّه إلى لون واحد من الجمهور.
وبالفعل كانت وسائل التواصل الاجتماعي وبعض التطبيقات منصة تحشيد وتنظيم للمجموعات التي اقتحمت مبنى “Capitol Hill” في يناير 2021، مما دفع هذه الشركات إلى حجب عشرات الآلاف من الحسابات بما فيها حساب الرئيس ترامب الذي تم اعتباره حساباً يدعو إلى العنف وانتهاكاً للقواعد العامة.
إزاء هذه المعطيات، لم تصنع سياسات ترامب هذه الموجة من الشعبوية واليمينية، فالبذور مغروسة بفعل عدم معالجة أوجه القصور في البنية الداخلية الأمريكية، وما تم في السنوات الأربع الماضية ما هو إلا تسريع لظهور هذه الاختلالات التي فاقمت بدورها أزمة كورونا بأبعادها الاقتصادية والصحية وما عمّقته من انخفاض للثقة في نفوس الأمريكيين تجاه دولتهم.
وهذه الاختلالات البنيوية ليست بالفريدة أو غير المسبوقة في التاريخ السياسي الأمريكي، ففي النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وكنتيجة للثورة الصناعية وإدخال الآلات إلى العمل، تضررت بعض القطاعات كالزراعة والمهن الحرفية اليدوية، وهُجّرت الأرياف إلى مراكز المدن الأقرب للمنشآت الصناعية. وأدت تحولات الثورة الصناعية الاجتماعية إلى رواج الخطاب الشعبوي المعادي للنخبة “Anti-Elites” وللمهاجرين “Anti-Immigrants” والداعي إلى اتباع سياسات حمائية اقتصادية، وهو ما يشابه جزئياً المشهد الحالي.
ورغم حالة عدم الاستقرار التي تلت الثورة الصناعية، إلا أن النظام الأمريكي استطاع امتصاص الصدمة واستيعاب المطالب والانتقال إلى مرحلة من الازدهار والانتعاش. لذلك يتفاءل كُتّاب أمريكيون بقدرة الولايات المتحدة على تجاوز احتقانها الحالي، فدورة الأزمات المتكررة عبر التاريخ الأمريكي تُظهر أن نقد البنية السياسية والاجتماعية يتبعه مرحلة متقدمة من الثقة العالية بالمؤسسات وبالضمير الجمعي للشعب، ومن أبرز من كتب في هذا الصدد الكاتب، جورج فريدمان، في مؤلفه “The Storm Before the Calm: America’s Discord, the Coming Crisis of the 2020s, and the Triumph Beyond” وفق ما نقلته منظمة Freedom Lab”” الفكرية في تقرير نشرته في نوفمبر 2020 حول مستقبل “الترامبية”.
ولا يعني ذلك التقليل من حجم المأزق الحالي، فتجاوزه ليس قدراً مسلَّماً به، وإنما يجب أن يخضع لمراجعات وحسابات معمقة، فالترامبية ليست مقترنة بترامب لتتراجع معه، وإن كان لأسلوب ترامب “الفوضوي” في الحكم – وفق ناقدين – ولشخصيته النرجسية الميالة إلى إنكار الحقائق الموضوعية، دور في رسم ملامح المشهد الحالي في أمريكا.
ففي مقال رأي نشرته مدونة جامعة لندن للاقتصاد والعلوم السياسية في ديسمبر 2020 جادلت أن الشعبوية تتسم بكونها عملية باتجاه عمودي تنازلي من الأعلى إلى الأسفل “Top-Down Process” أي أن القاعدة الشعبوية تفوض زعيمها للتصرف باسمها في الإدارة وتكتفي بالتعبير عن دعمها له والتصرف وفق رؤيته دون أن ترى نفسها مضطرة إلى ممارسة أدوار عملية ذات صلة بالشأن السياسي غير ما يلزم لضمان وصول القائد إلى الحكم واستمراريته في ذلك.
وقد أظهرت الشعارات التي حملها مقتحمو مبنى الكونغرس هذا النفَس من تتويج الزعيم، فمثلاً كان الشعار “واحد للجميع والجميع للواحد” حاضراً بقوة في قاعات الكونغرس، وهو الشعار الذي يرمز إلى جماعة “QAnon” المتطرفة.
وبمغادرة ترامب الحكم، فإن نسبة كبيرة من اليمينيين الشعبويين من مؤيديه سيميلون أكثر إلى ممارسة أنشطة قانونية وغير قانونية للتعبير عن هويتهم السياسية وأحقيتهم في رسم السياسات الأمريكية، أي أن هذه القاعدة الصلبة من المناصرين ستصبح غير مقيدة باعتبارات ضرورة الاستقرار السياسي، فهي ستكون غير منضبطة وفوضوية، وحتى إن جرى ضبطها وتوجيهها فمن المحتمل أن تكون الوجهة لا تتفق ومعايير الديمقراطية.
ومن الضروري في هذا السياق استشراف سلوك “الترامبية” في المرحلة القادمة في المجالات السياسية والاجتماعية والأمنية؛ استباقاً لأي أخطار محتملة، وللحيلولة دون تحول المتغيرات الأخيرة إلى سمة راسخة في الثقافة السياسية الأمريكية.
في المجال السياسي
لا يمكن اختزال المشهد الحالي بمجرد رفض بعض مناصري ترامب نتائجَ الانتخابات، وإنما هو حالة من التمرد على القيم السياسية الراسخة في الديمقراطية الأمريكية ومحاولة عنيفة وصريحة لتغيير مسار الاستحقاقات الدستورية السياسية المحكومة بالتداول السلمي للسلطة كأساس للديمقراطية الليبرالية.
وعادةً ما تُعرف الشعبوية بأنها ديمقراطية غير ليبرالية، فهي تميل إلى المشاركة في العملية السياسية ولكن وفق شروطها وبما يضمن لها التمكين في النظام السياسي ودون إيلاء احترام لقواعد اللعبة الديمقراطية.
ورغم الشعبوية الصاعدة، ستظل المؤسسية الدستورية ضامناً للعملية الديمقراطية و”ستتحدى” في متانة إجراءاتها المتغيرات الضاغطة التي تحاول تجيير “الديمقراطية” لإقصاء “الآخر”. ففي ذروة الاحتقان يومَ اقتحام الكونغرس، تحركت المنظومة الأمنية للسيطرة على الموقف وإخلاء المحتجين، وأصرت المنظومة التشريعية على المضي قدماً في خطوات المصادقة على انتخاب بايدن كما هو محدد في الدستور، لا بل انفضّ عدد من قيادات الجمهوريين عن الرئيس ترامب وعبّروا بوضوح عن غضبهم وسخطهم لما آلت إليه الأمور.
ويُتوقع أن يُجري الحزب الجمهوري مراجعات عميقة استباقاً لانتخابات التجديد النصفي للكونغرس بعد أقل من عامين، فليس من صالح الحزب المشاركة في الانتخابات وهو يبدو في مظهر “الحاضنة” للتمرد والتعصب، وفي الوقت نفسه ليس من صالحه المشاركة في الانتخابات وقد استفز القاعدة التي صوتت لترامب ومنحته 75 مليون صوت.
وإذا لم يصدر قرار من الكونغرس بعدم أهلية ترامب لتولي أي منصب فيدرالي مستقبلاً، قد يكون مرشحاً رئاسياً في انتخابات 2024. وحتى لو لم يترشح، فقد يمارس أدواراً سياسية في الخفاء تجعل منه “صانع الملوك” من خلال تزكية المرشحين المقربين منه ودعمهم في الانتخابات، وهنا يمكن أن يتفاقم الانقسام الجمهوري الترامبي إلى انقسام كامل ينتج عنه انفصال ترامب ومناصريه عن الحزب الجمهوري وتأسيسهم لحزب جديد ينسجم مع مبدأ “أمريكا عظيمة” الذي يحرك مشاعر المناصرين لترامب. فقد كان لافتاً أن غضب مناصريه لم ينصب في الدرجة الأولى على الديمقراطيين وإنما على المسؤولين الجمهوريين الذين لم ينساقوا وراء طرحه واعتُبروا “خائنين” في نظر مؤيديه.
وهذا الشرخ الجمهوري – الجمهوري لم يظهر فقط بعد نتائج الانتخابات الرئاسية 2020، فمنذ الانتخابات الرئاسية 2016 والنقاش محتدم داخل قيادات الجمهوريين حول ما إذا كان لدعم ترامب تداعيات متوسطة المدى على متانة الحزب وقوته، وفي حملته الانتخابية 2020 لم يتردد ترامب في الانتقاد العلني الصريح لبعض قادة الحزب ممن لم يُظهروا تأييدهم الكافي له، مصنفاً إياهم على أنهم جمهوريون بالاسم فقط “RINO=Republican In Name Only”.
وجدير بالذكر أن محتجي مبنى الكونغرس نصبوا مشنقة رمزية لـ “خونة العرق الأبيض” متأثرين بمفهوم “يوم الحبْل” الذي يُروَّج له في أوساط المتعصبين المطالبين بـ “تطهير” أمريكا ممن يقف في وجه تحقيق تفوق شامل للعرق الأبيض.
في المجال الاجتماعي
لربما تُقدم النظريات الاجتماعية تشخيصاً للواقع المحلي الأمريكي أكثر دقةً مما تقدمه النظريات السياسية، ذلك أن “المدخلات” الحالية للعملية السياسية تنبع من اضطراب مجتمعي تحول إلى مطالب لفئات ناقمة غاضبة جرى “تحفيزها” للدفاع عن هويتها المجتمعية ضد “الآخر”.
وهذا “الآخر” في نظر مؤيدي ترامب ليس فقط المهاجرين أو السود وإنما كل من يخالف نظرتهم في أمريكا بيضاء إنجيلية يقودها رئيس يشعرون أنه قادم من بيئتهم ويتعهد بالحفاظ على “وجودهم” ضد عمليات “الإلغاء الثقافي” التي يتصورون أنها تستهدفهم.
والزيارة التي قام بها ترامب في يناير 2021 إلى الجدار الحدودي مع المكسيك بعثت برسالة إلى مناصريه تفيد بأنه وفى بوعده الانتخابي كمرشح وظلَّ محافظاً على تعهده كرئيس في الحد من دخول المهاجرين إلى أمريكا، في إشارةٍ منه إلى أحد منجزاته أمام قاعدته الشعبية.
ولا يعني تولي بايدن، الداعي إلى سياسات هجرة منفتحة، أن طريقة تعاطي السلطات الأمريكية مع ملف اللاجئين والهجرة ستنقلب رأساً على عقب، لأن مثل هكذا انقلاب سيستفز جمهوراً واسعاً يُتوقع أن ينشط أكثر في حراكه المضاد لاستقبال مزيد من المهاجرين.
ويُتوقع أيضاً أن يزداد حضور العامل الديني في المجال العام “Public Sphere” الأمريكي، حيث سينتفض مؤيدو ترامب للدفاع عن مكتسبات حققتها إدارته، وقد يتم الترويج لمزيد من الأفكار الدينية المتطرفة المرتبطة بالأساطير الدينية لا سيما تلك المتعلقة بأحداث نهاية الزمان “Armageddon”؛ إذ سيسيطر عند المتزمتين دينياً الحنينُ إلى حكم ترامب “المخلص” الذي قدّم خدمات معنوية للجمهور الإنجيلي المحافظ.
ولا يُعد الحديث عن تأثير الاعتبارات الدينية في البنيان الأمريكي نوعاً من المبالغة أو التهويل، لما لهذه الاعتبارات من دور مؤثر في العقل الباطن لأي فرد، فالدين أحد المحركات “الخفية” للناخب الأمريكي، فمثلاً معظم الرؤساء الأمريكيين كانوا من البروتستانت، ولم يُنتخب أي رئيس كاثوليكي عبر التاريخ إلا جو بايدن وجون كينيدي الذي اغتيل عام 1963 في ملابسات لا تزال غامضة ومثاراً للدراما السينمائية.
في المقابل، وعلى النقيض من التطرف اليميني، قد يسلك التيار الليبرالي مساراً متطرفاً بوضوح في تبنيه للأفكار المضادة لليمينية، وليغذيان – التطرف اليميني واليساري – بعضهما بعضاً، مما سيُعقد من جهود خفض التوتر الحالي، فالتطرف لم يعد استثناءً يحمله قلة وإنما علامة للدلالة على التوجه السياسي.
كل ذلك يشير إلى أن حجم التفاعل من مؤيدي ترامب ومناهضيه في البنية الثقافية سيؤدي إلى نوع من التحطيم “Deconstruction” للنسيج الاجتماعي، ما لم تقم النخبة السياسية بجمهورييها وديمقراطييها بترميم هذه الفجوات، الأمر الذي سيجعل بايدن يضعه على قمة أولوياته وغاياته.
في المجال الأمني
لم يتردد المسؤولون الأمنيون في وسم سلوك مقتحمي الكونغرس بـ “الإرهاب المحلي”. ويشير هذا المفهوم إلى العنف الذي يمارسه مؤدلجون لتحقيق أهداف سياسية، وعادةً ما يكون هؤلاء المؤدلجون جزءاً من المجتمع وهويته ولكنهم في لحظة ما قرروا التعبير عن ذاتهم بصورة عنيفة لا قانونية.
ولم يتسنّ أثناء إعداد هذا التقرير الوصول إلى مصدر موثوق يبين الجماعات الموضوعة على قوائم الإرهاب لدى أجهزة الرصد الأمني، ولا يبدو أن معظم الجماعات اليمينية المتطرفة التي تتحرك بسهولة في الفضاء الإلكتروني يتم تتبعها على أنها ذات نشاط إرهابي محتمل، إلا أن المنظومة الأمنية قد تُجري – أو أنها أجرت بالفعل – تقييماً أمنياً يوصي بضرورة رصد وتتبع هذه الجماعات أسوةً بالتنظيمات الإرهابية العابرة للحدود.
وقد نشرThink Tank STRATEGIECS ورقة بحثية في يناير 2020 بعنوان “هجوم نيوزيلندا: مثال يجسد الإرهاب العابر للحدود” أوصى فيها بضرورة مراقبة مجموعات اليمين المتطرف في أوروبا، بالإضافة إلى تصنيف هذه المجموعات على أنها إرهابية وإخضاع مكافحتها للمنطق الأمني الذي بموجبه يتم التعامل مع التنظيمات الإرهابية. فمن شأن وجود قاعدة بيانات دولية للمتطرفين اليمينيين وتبادل المعلومات المتعلقة بهذه المجموعات بين المؤسسات الأمنية في مختلف الدول، أن يسهّل تتبع أعضائها وبالتالي إحباط أي عمل ممنهج للإضرار بالأمن والديمقراطية.
فمثلاً جماعات مثل”Antifa, Black lives Matter, QAnon, Proud Boys” ينبغي وضعها على قوائم الإرهاب لأن بعض عناصرها قد ينفذون في المدى الآني عمليات إرهابية، كاغتيال شخصية عامة أو استهداف لتجمع ما.
وبالفعل تتأهب السلطات الفيدرالية في واشنطن لضمان الأمن في يوم التنصيب 20 يناير، حيث أكد مدير شرطة واشنطن، روبرت كونتي، على أن مهمة حفظ النظام العام في العاصمة خلال ذلك اليوم ستوكل إلى أكثر من 20 ألف جندي من الحرس الوطني. كما توعد القائم بأعمال وزير العدل الأمريكي، جيفري روزن، مَن وصفهم بـ “الإرهابيين المحليين” في حال مارسوا أي عنف قبل وأثناء يوم التنصيب.
في هذا السياق، ستكون الديمقراطية الأمريكية أمام معضلة الموازنة بين الأمن والحرية، فالحد الفاصل بين التحرر والفوضى في مثل هكذا حالات يكون ضيقاً، وأحياناً يتطلب الموقف التضحية بشيء من درجات الحرية في سبيل الحفاظ على الأمن.
وعلى الأغلب، وإن استمر التوتر الحالي، فإن الدولة العميقة ستجد نفسها مضطرة إلى بلورة واقع جديد تكون فيه الأولوية للضرورات الأمنية، مما قد يؤدي إلى تضييق نطاق الحرية ولفترة طويلة. وهنا ينبغي التساؤل بجدية حول ما إذا كانت ثمة جهات ستستفيد من هذا التضييق، وما إذا كان لها دور في صناعة الظروف السابقة التي أوجبت هذا التضييق.
مجرد بداية
بعد السخط الذي أحدثه اقتحام مبنى الكونغرس ومصادقة المشرعين على فوز بايدن في الانتخابات؛ تعهد ترامب بـ “انتقال منظم للسلطة” دون أن يقر بشرعية نتائج الانتخابات؛ معلقاً: “إنها نهاية واحدة من أفضل أولى الولايات في تاريخ الرئاسة، لكنها مجرد بداية معركتنا من أجل أن نعيد لأمريكا عظمتها”.
وربما يكون هذا التشخيص دقيقاً، فما جرى قد يكون “مجرد بداية” والمتاعب الحقيقية ستبدأ في 21 يناير؛ اليوم التالي لتنصيب بايدن، وعندها ستُختبر متانة “الديمقراطية الأمريكية” كمؤسسات وكقيم مجتمعية تطورت في سياق تاريخي ضخم، ابتداءً من إعلان الاستقلال عام 1776 والحرب الأهلية والحربين العالميتين والحرب الباردة، وما تخلل ورافق هذه الأحداث التاريخية من تحولات فكرية مجتمعية استوعبها وعالجها النظام السياسي. فالديمقراطيات متجددة وتعيد ترميم ذاتها للتكيف من أجل البقاء، لأن البديل هو تفكك الكيان الأمريكي كوحدة سياسية وضياع مكتسبات 245 عاماً تحولت كرصيد استراتيجي لمفهوم الدولة.
وعليه، يتطلب الموقف من إدارة بايدن قيامها بعملية مراجعة دقيقة وعميقة للداخل الأمريكي، وصياغة استراتيجية عملية وجذرية لمواجهة التطرف، وتحييد “الشد والجذب” الحزبي عن شبهات واتهامات التطرف، فمواجهة كلا الحزبين للشعبوية اليمينية تتطلب حصافة لا تستفز مناصريها، وإلا فإن صندوق “باندورا” سيُفتح على شرور من الغضب والعنصرية.
كما يتطلب الموقف أيضاً إيلاء الواقع المحلي الأولويةَ على حساب الملفات الأخرى، فمنافسو وخصوم الولايات المتحدة “استفادوا” من استنزاف قدراتها في ملفات خارجية ليست ذات صلة وثيقة بالأمن القومي الأمريكي.
المصدر: STRATEGIECS