بقلم: حسن منينمة – الحرة
الشرق اليوم- في الذكرى المئوية الرابعة عام 2019 لوصول أول سفينة محمّلة بالمستعبدين الأفارقة إلى المستعمرات البريطانية في العالم الجديد، والتي أصبحت فيما بعد الولايات المتحدة، أطلقت مجموعة من المفكرين “مشروع 1619” للمراجعة التاريخية، بدعم من مجلة صحيفة “نيويورك تايمز”. المراجعة اقتضت وضع تجربة الاستعباد والاستغلال في صلب الزخم الاقتصادي والاجتماعي والتاريخي الذي أفضى إلى قيام الولايات المتحدة كدولة مستقلة، ثم إلى نمو قوتها في مرحلة نشوئها وصولاً إلى هيمنتها على العالم، من خلال مصادرتها لفائض الانتاج من المستعبدين، ثم من أحفادهم بعد الاعتاق المفترض، عبر وسائل متعددة ضمنت تواصل الاستغلال والتهميش، ولم تتراجع إلا جزئياً بفعل المقاومة التي ثابرت عليها هذه الفئات المغبونة، وصولاً إلى حملة الحقوق المدنية في ستينات القرن الماضي، بل بما يشمل المطالبة الحالية بالعدالة العرقية.
تشكل هذه القراءة تحدياً قاسياً للصورة الذاتية السائدة في الولايات المتحدة، والقائمة على أن محرك التاريخ الأميركي هو مسعى التوفيق بين المصالح الموضوعية، حال الولايات المتحدة هنا هو حال أي مجتمع آخر في كل زمان ومكان، وبين القيم المؤسِّسة لبلاد تعتبر أن جيلها الأول قد تفرّد بتشكيل نظام سياسي ينطلق من الحقوق الطبيعية، غير القابلة للتصرف، والتي تشمل كل الناس. وعليه، تعتبر هذه الصورة الذاتية أن أي تخلف أو قصور في تطبيق القناعة المبدئية يعود إلى الطبيعة البشرية المفتقدة للكمال، بل أن النصوص التأسيسية للولايات المتحدة تلحظ أن مسعى الارتقاء إلى الحالة الفضلى هو تدرجي بطبعه ومتواصل.
موقف الرئيس دونالد ترامب من “مشروع 1619” جاء منسجماً مع ما اعتاد عليه إزاء أي خلاف أو اختلاف. قدح وذم وتسطيح وتشويه، ووعيد بقطع التمويل عن أية دائرة تعليمية تعتمد “مشروع 1619” في مناهجها. ولكنه شمل أيضاً الوعد بإصدار رؤية وتوصيات تنقض هذا المشروع وتقدّم البديل.
قبل يومين من انتهاء عهدة ترامب، وبالتزامن مع الذكرى السنوية للزعيم الأفريقي الأميركي مارتن لوثر كينغ، أنجزت اللجنة المولجة بتحضير هذا البديل عملها، وصدر “تقرير 1776”. النية الجلية في هذا التقرير كانت في أن يكون الأول من جهد يعيد توجيه التربية الوطنية بعيداً عن المراجعات التاريخية وباتجاه التأكيد على الاستثنائية الأميركية. غير أن الظرف، مع فشل ترامب بالفوز بعهدة ثانية، تحكم على هذا التقرير بأن يكون الإصدار اليتيم، دون أن يفقد النص من أهميته كخلاصة واضحة للطرح المحافظ، بمقومات القوة ونقاط الضعف.
يعتمد “تقرير 1776” كنقطة انطلاق، واقع أن الفكر المحافظ “أصولي” في أساسه، أي أنه قائم على تثبيت “الحقيقة”، ليصبح المسعى الإنساني السعي إلى إدراكها كلها وتحقيق مقتضاها. ومن يلامس “الحقيقة”، سواء كان أرسطو وسائر حكماء اليونان، أو “الآباء المؤسسين” للولايات المتحدة، يصبح مصدراً للعلم، لا مادة له. أي أن التربية القويمة هي التي تقرّ بهذا السلف أصلاً للمعرفة، وترضى بوضع ابتعاده عن مقتضى الحقائق البديهية غير القابلة للتصرّف في إطار السياق التاريخي الخاص بأحوال زمانه. فلا يجوز بالتالي تعيير جورج واشنطن أو توماس جفرسون مثلاً لامتلاكهما أعداداً من المستعبدين، كما كان واقع الحال في أيامهما، بل المطلوب الالتفات إلى أن كل منهما قد أرسى الأسس لتجاوز الاستعباد، سواء في الأقوال التي رسّخت مبدأ “أن جميع الناس يخلقون متساوين”، أو في الأفعال، وإن كانت شخصية ورمزية، في وصية كل منهما بإعتاق مستعبدين لديه.
يريد “تقرير 1776” إعادة القداسة إلى “الآباء المؤسسين”، بإخراجهم من دائرة النقد والنقض، والتركيز على مساهماتهم المبدئية في إطلاق النموذج الجمهوري الأكثر ديمومة في التاريخ، أي النظام السياسي للولايات المتحدة.
واقع الأمر أن “مشروع 1619” قد أثار اعتراض عدد من المؤرخين لإفراطه في الطعن بالشخصيات المؤسِّسة للولايات المتحدة، جيل “”الآباء” ومن سبقهم ومن تلاهم. “تقرير 1776” لا يتوخّى الإنصاف الذي طالب به هؤلاء المؤرخون، بل يريد وحسب إخراجهم من دائرة المساءلة، في محاكاة، غير مقصودة طبعاً، للموقف العقدي الإسلامي الذي يجعل الصحابة لدى أهل السنة، أو أهل البيت لدى الشيعة، خارج صلاحية علم الرجال في الجرح والتعديل.
يعكس “تقرير 1776″ التماهي بين الفكر المحافظ والتصورات الدينية بشكل وسطي، إذ يرتقي بـ”الآباء” إلى مقام يمنحهم قدراً من التنزيه، ولكن دون الغلو، المنتشر في أوساط محافظة عدّة حول أنهم كانوا “ملهمين” بالمعنى الديني للكلمة.
غير أن التقرير يعمد إلى ما يقارب التدليس في زعم الأساس الديني (المسيحي) للتجربة الأميركية. ففي حين أن الإطار الفكري الذي استمدت منه الحركة الاستقلالية في الولايات مبادئها قد استفاد بالتأكيد من المقومات الأوروبية المبنية على المسيحية (إصلاحها وتخطيها)، غير أن “الآباء”، وإن كان منهم المتدينون، التزموا قراءة ربوبية مجرّدة من الدين في إشاراتهم القليلة إلى “الخالق”، وهي الإشارات التي يستدعيها التقرير مراراً ليوهم أنها في صلب التصور الجمهوري الاستقلالي، في حين أن هذا التصور، بلغته ومواقفه ومبادئه كان مبنياً على فكر “الأنوار” الأوروبي السائد في قرنه (أي الثامن عشر)، بل اعتمد برموزه والتي ما تزال قائمة إلى اليوم تصويرات البنائين الأحرار (الماسونية)، والتي كانت توسم في الأوساط المتدينة على أنها النقيض للمسيحية.
بل التقرير يبقى عرضة للنقد لتشتيته العلاقة، بالكامل تقريباً، بين “أنوار” العالم القديم عامة، والغليان السياسي الفكري المتحقق يومئذ في فرنسا خاصة، إذ شهده وشارك به كبار “الآباء المؤسسين” الأميركيين، وبين الصيغة التي توافق عليها هؤلاء الآباء، ليأتي نتاجهم الفكري والعملي مقترباً من الإنجاز من العدم (مع قدر ضئيل من الإقرار بفضل التجربة الحقوقية الإنكليزية). وعليه يبني التقرير “«الاستثنائية” والريادية للولايات المتحدة، ويخرج تجربتها التاريخية من سياقها الوقائعي، لتصبح الولايات المتحدة وليدة فكرة أصيلة نبيلة، قياسها ذاتها.
وهنا يقع “التقرير” مجدداً في التباس، إن لم يُتّهم مرة ثانية بالتدليس. فهو يريد أن تكون “الحقيقة” التي توصّل إليها “الآباء” هي المساواة بين الناس، وعليه فإن قيام الولايات المتحدة مختلف عن تأسيس غيرها من الدول، من جهة أن سائر الدول تقوم على القومية أو العرق أو الدين، في حين أن الولايات المتحدة هي السبّاقة في كونها مبنية على الحقوق، وإن جاء التطبيق في مرحلته الأولى منقوصاً.
على أن “التقرير” يتضمّن كذلك اقتباساً من جيل “الآباء” حول الأهمية الوجودية من أجل تحقيق الاتحاد لواقع أن الولايات تشترك بالعرق واللغة والدين والأصل.
هذه الازدواجية بالطرح ليست سهواً. نص “التقرير” يعمد إلى تلطيفها بالتنويه إلى أن الاقتباس من الإجمال وحسب، وأنه لا ينفي المبدأ. ولكنه تلطيف غير وافٍ. فتبدو هذه الازدواجية، في تضارب طرحيها، وكأنها تستهدف خصمي الفكر المحافظ، كل على حدة، وإن على حساب التجانس في الطرح.
“تقرير 1776” يستعرض توجهات متعددة تشكل نقيضاً للتجربة الأميركية، من إباحة الاستعباد إلى الفاشية والشيوعية. على أن الخطر الحقيقي الداهم بالنسبة للتقرير، بالتصريح أو التلميح، هو من “التقدمية” ومن “الهوياتية”. ليس غريباً أن يأتي تصوير “التقرير” لهذين الخصمين بنبرة اختزالية تسطيحية.
“التقدمية”، وفق “التقرير”، هي النسبية الفكرية غير المقيّدة والتي ترى بأن المبادئ تتبدل وفق الزمان والمكان، ولا تلتزم بالتالي بالنصوص المؤسِّسة، بل تلزمها بتفسيرات وتأويلات تبتعد عن مقاصدها الأولى، لتجترح منها الحقوق المستجدة. المقصود هنا ضمنياً “الحق” بالإجهاض المبني على “الحق” بالخصوصية والمشتق بقدر من الانفلات من الحق الدستوري بعدم التعرض للتفتيش خارج إطار القوانين المرعية، وكذلك “الحق” بالزواج المثلي، والقائم على قياس يعتبره معظم الفكر المحافظ فاسداً في إقحامه المساواة في مسألة “بديهية” راسية في “قانون الطبيعة وقانون رب الطبيعة”.
ثمة تقدميون يذهبون في قراءتهم للحقوق إلى الحد الذي يتهمهم به “التقرير”، أي إنكار ثبات حقيقة الحقوق. ولكنهم قلّة. الغالبية العظمى من التوجهات التقدمية في الولايات المتحدة لا تخرج الحقوق الأساسية بحدّ ذاتها عن الحقيقة الثابتة، ولكنها بالفعل تعتبر بأن النصوص التي أرست هذه الحقوق في الواقع السياسي، و”الآباء” الذين وضعوا هذه النصوص، هم حصيلة لتاريخ خاص لا تجلٍ لحقيقة عامة، وهم بالتالي مرجعية نظرية وعملية، ملزمة بالتأكيد ولكن قابلة للتفاعل والتطور، خارج زعم “القداسة”. أما القداسة، من وجهة نظر تقدمية غالبة، فهي مستحقة للحقوق نفسها، لا للنصوص التي تفيد عنها، ذلك أن هذه النصوص هي استشفاف لحقوق قائمة قبلها، وليست ابتداع لها.
عند إنكار “التقرير” ارتكاز التقدمية إلى أية قداسة، لإنكار التقدمية قداسة النصوص والآباء، ما يقدم عليه التيار المحافظ هو التخلي عن الأساس المشترك بينه وبين مقابله التقدمي، أي قداسة الحقوق، ما ينقل السجال بين التيارين من الخلاف الفكري القابل للتسويات السياسية العملية إلى العداء المبدئي الممتنع عنها. ليس هنا موطن الانفصام الثقافي الاجتماعي السياسي المتحقق في الولايات المتحدة، ولكنه موقف يساهم في توكيد هذا الانفصام.
يلجأ “التقرير” إلى مقاربة سجالية مماثلة في التعاطي مع “الهوياتية”، إذ هي، وفق التعريف الذي يعتمده التقرير، تغليب للهوية الفئوية على الذاتية الفردية، ليمسي التبادل السياسي مواجهة بين مجموعات متباينة متنافرة تلزم المنسوبين إليها بالمواقف الجماعية العقائدية، بدلاً من أن يكون حواراً بين مواطنين أفراد أحرار في قرارهم الذاتي تحت سقف الوطن الجامع.
ما يرفضه “التقرير”، بما يقارب الاعتباطية، دون مناقشة أو محاججة، هو الاتهام الموجه إلى التيار المحافظ بأن زعم رفض “الهوياتية” هو بحد ذاته انتصار للهوياتية الغالبة، أي “الهوياتية البيضاء”، والتي وجّه التقرير نفسه لها التحية في إيراده نص “الأصول الواحدة”. فالهوياتية التي يعترض عليها التقرير، بل يشيطنها، وهي ضمناً المتجسدة بحركة “حياة السود ذات شأن”، هي هوياتية دفاعية استدراكية، أي أنها لا تطرح نفسها على أنها نتيجة رغبة ارتجالية بالانفصال أو الانعزال، بل هي ردة فعل لتاريخ ولواقع يعيشه أصحابه تحت وطأة الاستعباد والاستغلال والتهميش.
“تقرير 1776” ليس دعوة للحوار في سبيل تحقيق إجماع وطني، وإن على نواة من المقومات. بل هو إعلان حرب على “التقدمية” و”الهوياتية”، باسم الولايات المتحدة، من جانب التيار المحافظ. ولكن بالمقابل “مشروع 1619” لم يكن كذلك دعوة للحوار، بل إشهار لتاريخ بديل يطعن بكافة مسلمات التاريخ والثقافة في الولايات المتحدة.
لا يشكل هذا الموقفان المتشددان بحد ذاتهما حالة مرضية. بل يمكن اعتبارهما من مواقف الحد الأقصى التي من شأنها ترسيم حدود الحوار. شرط أن يكون ثمة من يسعى بالفعل إلى الحوار. المبادرات التوفيقية ليست غائبة، وقد برز البعض منها حتى قبل أن يفوز دونالد ترامب بالرئاسة عام 2016. ولكنها تبقى محدودة التأثير.
هل تشكل الرئاسة الهادئة خطابياً، والتي وعد جو بايدن أن يجسّدها، تحفيزاً للعودة إلى الحوار، أم هل أن التعبئة العصبية والتي ساهم دونالد ترامب بإثارتها في صفوف مؤيديه ومخصومه على حد سواء، قد بلغت حداً يتعذر معه الهبوط الهادئ؟ في الحالة الأولى، قد يشكل “تقرير 1776” مادة هامة للمباشرة بمخاطبة للآخر قد غابت منذ أمد. أما في الحالة الثانية، فقد يكون هذا التقرير أداة جديدة لمضاعفة الاستقطاب. عسى أن تكون الحالة الأولى.