الرئيسية / مقالات رأي / كيف نفكّك منظومة التزمّت؟

كيف نفكّك منظومة التزمّت؟

بقلم: موسى برهومة – صحيفة البيان

الشرق اليوم- الذين قالوا إنّ مواجهة الإرهاب والغلوّ والتطرّف يحتاج إلى استراتيجية بعيدة المدى، لم يجانبوا الصواب؛ فالمشوار نحو اجتثاث مظاهر التزمّت في الحياة العربية يلزمه نفس طويل معطوف على خطط واضحة مضمونة الأثر.

ومع أنّ محاربة الإرهاب ظلت، حتى هذه اللحظة، موكلةً للجهود الأمنية والاستخباراتية، إلا أنّ ذلك لا يغني أن يتبلور بموازاة ذلك جهد يحفر في أعماق التزمّت، ويستأصل جذوته، ويقوم بعد ذلك بتأهيل المجتمع نفسياً وفكرياً لتقبّل الآخر، واستيعاب الاختلاف، وتوسيع فسحة التسامح، والعمل بجد لبناء الكون، وإعمار الأرض.

ومعروف أنّ التديّن في المجتمعات العربية واسع ومتجذّر، ومن هذه الكوّة نفذت الحركات المتطرّفة؛ بذريعة نشر تعاليم الدين وتحفيظ القرآن، عبر إقامة مخيمات دورية للأطفال بهدف تنمية حسّهم الديني وترقية سلوكهم الحياتي، لكنّ الأهداف المتوارية خلف هذه العناوين الجذّابة كانت إعداد أفراد تابعين لتلك الحركات التي تطوّر تزمّتها باتجاه «الجهاديات» الإرهابية التي تقتل وتحرق وتسفك دماء الأبرياء، وتمتهن تعاليم الدين ومقاصده النبيلة.

وعبر أكثر من نصف قرن، تشكّل وعي ديني متطرّف لدى الكثير من العرب المسلمين الذين فهموا الدين بمعناه المتطرف، وابتعدوا في مقارباتهم عن الدين المعتدل الذي يحض على الوسطية، وينأى عن التعصّب والنزعة الاستئصالية للآخر المختلف، واعتباره خارج دائرة الإنسانية.

ولأنّ هناك دولاً عربية ظلت تمالئ أصحاب الفكر الديني على حساب أنصار التصوّرات التنويرية التي تبتغي نهضة اجتماعية في دولة مدنية، فقد احتل الفريق الأول المشهدَ برمّته، فصال وجال وتحكّم في مقادير الدولة من مناهج وسياسات كمّمت أفواه النساء وأقصتهن عن المشهد والمشاركة في الحياة، وأثمرت جيلاً متعصّباً يرى الحياة بلونين اثنين لا ثالث لهما؛ الأبيض والأسود، وهو ما تطور لاحقاً في أدبيات الحركات المتطرّفة إلى فسطاطين: دار حق ودار باطل.

في غمرة ذلك، غابت الفنون، وأقصيت الفلسفة، وجرى تجاهل الفكر النقدي، ومناهج التحليل العلمي، لمصلحة ثقافة تعليمية قائمة على البصم والحفظ والتلقين والترديد الببغاوي للمعلومات دون فحصها والتدبّر بشأنها. غابت، فضلاً عن، ذلك الفنون، التي كان يُنظر إليها باعتبارها حراماً. غاب الغناء واقتصر على الذكور، وكان صوت المرأة متوارياً باعتباره «عورة».

ولم نألف أن نرى حراكاً فنياً من مسرح وسينما وفنون تشكيلية، حتى وقت متأخر من زماننا الراهن، وظل ذلك، بعد ظهوره، مقتصراً على النخبة، ولم يتغلغل في نسيج المجتمعات العربية، لاسيما المناطق الفقيرة التي كانت خزّان وقود الجماعات التكفيرية، حيث وصلت إليهم قبل أن تنتبه إلى ذلك الدول العربية التي ما انفكت ساهية عن الأمر!

مشوار تفكيك منظومة التزمّت يبدأ بالفنون والفلسفة والفكر النقدي الخلاق والتحليل الإبداعي، علاوة على تعميم ثقافة الفرح، وتنمية مهارات الروح والجسد من خلال إحياء رياضات للأطفال والشباب توجه تركيزهم إلى المنافسة وتحقيق الفوز بالجهد الذاتي، وتعظيم إنجازات الآخرين.

فمن المستغرب أن يبحث ربّ عائلة في مدينة عربية عن مركز لتدريب أبنائه التايكواندو ولا يجد، فيما تمتلئ الأنحاء بالمراكز ذات غايات دينية بخلفيات أيديولوجية، أو يعج الفضاء ببرامج لا نفع منه سوى المظهرية العابرة التي سرعان ما تذوب كفقاعة صابون.

المهرجانات الفنية التي تستقطب الشعراء والأدباء والمطربين والفنانين من كل الاتجاهات والحرف، والرياضات التي تحرّر الجسد من أثقاله، أمر ضروري لإيصال مياه العافية إلى النفوس المتصحّرة التي يزيدها الخطاب المتداول عبر بعض الفضائيات العربية انغلاقاً وتحجّراً، ما ينمّي ثقافة الخرافة والجهل، ويوقظ ما هجع في العقل الإنساني من توحّش وبدائية تتجلى في سائر مظاهر الحياة العربية، وتضرم فيها نار التطرّف والكراهية.

شاهد أيضاً

أوكرانيا

العربية- عبدالمنعم سعيد الشرق اليوم– فى العادة فإن الاستدلال عن سياسات إدارة جديدة يأتى من …