بقلم: د. عبدالله المدني – صحيفة “البيان” الإماراتية
الشرق اليوم – المعروف أن الجيش السريلانكي نجح بالقوة العسكرية في إلحاق هزيمة ساحقة ماحقة بحركة نمور التاميل الانفصالية، التي سعت منذ عام 1983 إلى تكوين دولة منفصلة خاصة بالأقلية التاميلية في الأقاليم الشمالية والشرقية، من هذا البلد الآسيوي قليل الحظ.
كان الثمن باهظاً بطبيعة الحال وتمثل في مقتل نحو 100 ألف من الجانبين، وتخريب المنشآت الحيوية وتعطيل التنمية، وإيقاف النشاط السياحي (المصدر الأهم للدخل القومي) وغير ذلك.
والمعروف أيضاً أن حركة نمور التاميل لجأت في محاولاتها الانفصالية ضد الحكومة المركزية في كولومبو وضد الأغلبية السينهالية البوذية الحاكمة إلى أعمال إرهابية مقيتة، أدت إلى وضعها على قائمة الجماعات الإرهابية من قبل العديد من الدول، مثلما أدان الكثيرون أساليب زعيم الحركة فيلوبيلاي برابهاكاران الباطشة والديكتاتورية بحق مواطنيه التاميل.
وكانت أعمال التاميل الإرهابية من منطلق مبدأ العين بالعين والسن بالسن، بمعنى كلما أوغلت كولومبو في اتباع سياسة المركزية المطلقة في الحكم وحرمان الأقليات وعلى رأسها الأقلية التاميلية من حقوقها، فإن كل فعل من أفعالها مباح.
بُعيد تحقيق الجيش السريلانكي للنصر في عام 2009، استبشر الكثيرون بأن السلام سيعمّ البلاد، وأن حكومة كولومبو سوف تعزّز انتصارها باتخاذ إجراءات من شأنها تلافي أخطاء الماضي من خلال إشراك الأقليات في السلطة أو إعطاء بعض الأقاليم صلاحيات إدارية واسعة، وذلك قطعاً لدابر أي محاولات انفصالية جديدة وتحقيقاً للوحدة الوطنية.
غير أنه من الواضح اليوم أن ذلك كان من وحي الخيال الرومانسي، وليس له مكان في عقول القابضين على السلطة في كولومبو، الذين يعتبرون أن فكرة الانفصال في وطن مستقل لا زالت تعشش في أذهان التاميليين، بالرغم من عدم وجود تهديد مسلح من جانبهم في الوقت الراهن، وأنه بالتالي لا مناص من وجود سلطة أكثر مركزية في كولومبو إنْ أرادت البلاد أن تحقق سلاماً طويل الأجل وتنمية مستدامة.
والحقيقة أنه مع عودة آل راجاباكسا إلى السلطة، وانتخاب غوتابايا راجاباكسا رئيسا للبلاد، وتولّي شقيقه رئاسة الحكومة لوحظ منحى جديد في إدارة سريلانكا وهو عدم الاكتفاء بالسلطة المطلقة الناجمة عن انتخابات نيابية، وإنما أيضاً التطلّع إلى شكل جديد من أشكال هيمنة العرق السنهالي على مقادير الدولة وفق أيديولوجية قومية بوذية، بحيث لا يترك أدنى مساحة صغيرة للأقليات العرقية والدينية الأخرى للمشاركة في إدارة البلاد.
وهذه بطبيعة الحال عودة إلى النهج القديم الذي يستند إلى مفهوم أن التاميل، سواء كانوا مسلمين أو هندوساً، ليسوا سوى مهاجرين، وإن وطنهم الأم هو ولاية “تاميل نادو” في أقصى الجنوب الهندي المواجه لسواحل سريلانكا الشمالية، وأن تواجدهم في سريلانكا كان نتيجة لغزوات تاريخية قديمة أو مخططات استعمارية نفذها المستعمر البريطاني عام 1837م من أجل مصالحه.
ومثل هذا الكلام ردده مؤخراً وزير الطاقة والمتحدث الرسمي باسم الحكومة السريلانكية أوديا جامانبيلا الذي استنكر على الأقليات حلم المشاركة في السلطة على النحو المتّبع في الهند أو باكستان مثلاً.
ولعل ما يضعف موقف الأقليات في البلاد لجهة تحقيق بعض المكاسب، وفي الوقت نفسه يترك سريلانكا غنيمة للأغلبية السنهالية هو الانقسامات داخل صفوف الأحزاب السياسية المعارضة، بدليل أنهم لم ينجحوا في أكتوبر الماضي في منع تعديل دستوري يرفع سن الانتخاب إلى 20 عاماً، كما أنهم لم ينجحوا في الانتخابات الرئاسية الماضية في نوفمبر 2019 في تفويز المرشح ساجيت بريماداسا (الأقل تشدداً) في مواجهة غوتابايا راجاباسكا (الأكثر ديكتاتورية)، حيث حصل الأول على %42.99 من الأصوات مقابل %52.25 للثاني.
وعلى المنوال نفسه، فشلوا في تفعيل ما أجازه الدستور الثالث عشر، الذي سنّ في عام 1987، لجهة إنشاء مجالس الأقاليم كي يدير أبناء الأقاليم شؤونهم بأنفسهم، علماً بأن الطبقة السنهالية الحاكمة ناورت طويلاً حول هذا البند الدستوري، وعطّلته بحجة أنه فرض فرضاً عليهم من قبل نيودلهي.
ويمكن القول إن ما عزّز مخاوف الأغلبية السنهالية البوذية من هذا الأمر الاعتداءات الإرهابية التي نفذها متطرفون من الأقلية المسلمة عام 2018 ضد عدد من الفنادق والكنائس في كولومبو، والتي سقط فيها 269 شخصاً ما بين قتيل وجريح.
وخلاصة القول، إن الأغلبية السنهالية الحاكمة لا تجد أي مبرر، وقد انتصرت بالحديد والنار على التهديد الداخلي الانفصالي، لتقديم تنازلات للأقليات، مؤمنة بشدة بأن الأمة بحاجة إلى حكم زعيم قوي يساعده فريق من الوزراء المهنيين لوضع البلاد على طريق التنمية والازدهار.
والوزراء المهنيون هنا ــ بطبيعة الحال ــ هم من الرموز المتقاعدة من الجيش السريلانكي الذي يهيمن عليه السنهاليون منذ تأسيسه في عام 1948. وفي هذا السياق، يدور الحديث حول احتمال أن يُصار إلى تعديل الدستور للمرة العشرين، بحيث يدوّن فيه تركيز السلطة في شخص رئيس الجمهورية تفادياً لتكرار الأزمة الدستورية التي حدثت عام 2018 بين الأخير ورئيس الوزراء.