بقلم: بهاء العوام – العرب اللندنية
الشرق اليوم- وزير الخارجية الفرنسية جان إيف لودريان يدعو إلى هدنة بين ضفتي الأطلسي. وأكد على وقف لإطلاق الرسوم والضرائب بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، والبحث عن مخارج أخرى للمشكلات التجارية بين الطرفين. ولأن للدعوة طابعا اقتصاديا بحتا، ينطوي صدورها من وزير الخارجية على رسائل سياسية عدة في مستقبل العلاقات الفرنسية الأميركية من جهة، والأوروبية الأميركية من جهة أخرى.
في الحقيقة، ضفتا الأطلسي تجمع أكثر بكثير من دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، فهذا المحيط تطل عليه دول كثيرة من قارات أفريقيا وأوروبا والأميركتين، حيث إنه يمتد بين المحيطين المتجمدين في الشمال والجنوب ويغطي خمس كوكب الأرض. ولكن عندما يتعلق الأمر بقوة الدول المطلة على هذه المساحة المائية المهولة، يصبح من المنطقي إلى حدّ بعيد اختصار الضفتين ببعض الدول.
الحرب التجارية بين “ضفتي الأطلسي” بدأت بعد موافقة منظمة التجارة العالمية، في أواخر 2019، على فرض واشنطن رسوما جمركية على سلع أوروبية تصل قيمتها إلى 7.5 مليار دولار. هذه الرسوم طالت سلعا متعددة مثل النبيذ والجبن وزيت الزيتون والويسكي، وقد فرضت على مراحل متتالية منذ ذلك العام. أما الأهم فهو أن الفرنسيين هم الأكثر تضررا بها بين مختلف دول الاتحاد الأوروبي.
للفرنسيين جولاتهم في هذه الحرب أيضا، والبعض منها أغضب الولايات المتحدة كثيرا، ففي نوفمبر الماضي قررت باريس فرض ضرائب على عمالقة التكنولوجيا في أميركا، ورغم التهديد العلني لواشنطن بانتقام تجاري إلا أن الفرنسيين رفضوا التراجع حتى الآن. ربما يتغير ذلك بعد وصول الرئيس المنتخب جو بايدن إلى السلطة، أو تزداد العلاقات التجارية والسياسية مع واشنطن تعقيدا.
الفرنسيون، كما الأوروبيين جميعا، يريدون صفحة جديدة مع الولايات المتحدة. وفي الحقيقة هم يريدون استرداد تلك العلاقة التي كانوا فيها أصحاب حظوة ومنزلة خاصة لدى الأميركيين دون مقابل يذكر. من بدّل هذه المعادلة هو الرئيس المنتهية ولايته دونالد ترامب، ومع رحيله يصبح الحلم مشروعا، خاصة وأن القادم إلى البيت الأبيض هو من أنصار المدرسة السياسية الكلاسيكية، التي لا تفضل إحراج الحلفاء.
ربما فرنسا أكثر دول الاتحاد الأوروبي تضررا من ولاية ترامب، ليس فقط تجاريا، وإنما سياسيا وعلى مستوى العلاقة الشخصية بين قيادتي الدولتين. بشكل أو بآخر أحبط ترامب كل مساعي الرئيس إيمانويل ماكرون لقيادة الاتحاد الأوروبي وتعزيز مكانة بلاده دوليا، أو حتى في الأماكن التي كانت مستعمرات أو مناطق نفوذ فرنسية تاريخيا. ولو لم يكن الرئيس الأميركي المنتهية ولايته منشغلا بالانتخابات الرئاسية العام الماضي، لتفجرت العلاقات بين باريس وواشنطن وتأزم الوضع بينهما.
طوال سنوات ترامب الأربع، لم يعترف ماكرون بأن الاتفاق النووي المبرم بين إيران والقوى الست الكبرى في 2015 منقوص لأنه لا يتضمن تهديد طهران لأمن منطقة الشرق الأوسط. وبعدما غربت شمس ترامب خرج وزير خارجية فرنسا ليقول، في يوم دعوته إلى هدنة الأطلسي التجارية، إن إحياء ذلك الاتفاق لا يكفي، وهناك حاجة ملحة لمحادثات صعبة بشأن الصواريخ الباليستية وأنشطة الخمينيين الإقليمية.
الموقف الفرنسي من الاتفاق النووي يجب أن يكون مطابقا تماما للموقف الأميركي الآن. لا يوجد خيار آخر أمام باريس إن كانت تريد الولايات المتحدة إلى جانبها. لا مزيد من الدفاع الفرنسي الفارغ عن الاتفاق، ولا حاجة لمجاملة طهران أو الوقوف على الحياد في العلاقة معها. ما تقرره إدارة بايدن في هذا الملف سيكون هو فقط دليل عمل الأوروبيين الموقعين على الاتفاق، فرنسا وألمانيا وبريطانيا.
ليس فقط الملف النووي الإيراني هو ما تحتاج فرنسا والأوروبيون عموما للتوافق مع أميركا بايدن حوله. ثمة الكثير من القضايا العربية والأفريقية، إضافة إلى علاقة الولايات المتحدة مع كل من روسيا والصين. إلى تلك الدولتين تتجه الأبصار اليوم، لأن السياسة التي ستتبناها واشنطن تجاه موسكو وبكين خلال السنوات الأربع المقبلة، ستحدد شكل التفاهمات العالمية الكبرى على المدى المتوسط والمدى الطويل.
في السابق، أو لنقل في زمن ترامب، كان ماكرون يود لو يعيد الاتحاد الأوروبي حساباته مع روسيا، فيضمها إلى قائمة حلفائه بدلا من خصومه. أو على الأقل يجري هدنة طويلة الأجل معها، حتى يتاح للتكتل وقتا كافيا للملمة أوراقه الداخلية، فيستوعب خروج بريطانيا منه أولا، ثم يبني جيشه الخاص الذي يمكن أن يحل محل حلف الناتو إن اقتضت الضرورة، أو تعقدت العلاقة مع تركيا على حدوده الجنوبية.
اليوم يتوجب على الأوروبيين التروي في التودد إلى الروس، فبايدن لا يرغب بعلاقات مميزة مع موسكو خلال ولايته، وقد يزاحمها في ملفات استفادت فيها من الفراغ الذي أحدثه ترامب عمدا. أما بالنسبة للجيش الأوروبي فهي لم تكن فكرة جذابة بالنسبة للأميركيين، ولن تكون أبدا. ولأنها كذلك لن تستعجلها باريس، خاصة إن كان هناك أمل بعودة الوئام مع واشنطن مع وصول الساكن الجديد للبيت الأبيض.
العلاقة مع الصين هي أيضا تحتاج من الأوروبيين التروي. ربما لن يكون بايدن حادا في خصومته مع بكين كما هو الحال في عهد ترامب. ولكن الرئيس المنتخب ليس واضحا كفاية لمعرفة توجهات سياسة إدارته تجاه هذا الملف، الذي يفوق كل الملفات أهمية بالنسبة للاتحاد الأوروبي وغيره، أولا لأن الصين شريك اقتصادي هام بالنسبة لغالبية دول العالم، وثانيا لأن علاقة واشنطن وبكين تنعكس على الجميع.
ما يقوله وزير الخارجية الفرنسي بأن بلاده لن تبحث عن التكتلات في علاقاتها مع الصين أو روسيا أو غيرها، إنما هو إشارة إلى التروي المطلوب إلى حين اتضاح سياسة الولايات المتحدة الخارجية، وهو دليل أيضا على أن المعلومات الاستخباراتية توحي بأن عودة النفوذ الأميركي العالمي التي يتطلع لها بايدن، لن تكون سلمية الطابع في كل الأماكن، أو على الأقل لن تكون هادئة وودودة في بعض الملفات.
في جميع الحالات تبدو الهدنة التي يتطلع لها الفرنسيون مع الولايات المتحدة، سواء اقتصاديا أو سياسيا، ستدخل حيز التنفيذ مع تنصيب بايدن رئيسا في العشرين من الشهر الجاري، لكن أحدا لا يستطيع ضمان كم تدوم هذه الهدنة وإلى أين ستمضي. ثمة شروط أميركية تعدها إدارة بايدن لجميع الملفات الخارجية، وإن أراد الأوروبيون السلام بين ضفتي الأطلسي عليهم التعامل بحكمة وحلم شديدين، مع كل ما تحمله التيارات الأميركية إلى شواطئ القارة العجوز خلال السنوات الأربع المقبلة أيا كانت ماهيته.