بقلم: محمد الرميحي – النهار العربي
الشرق اليوم- غداً يوم آخر للولايات المتحدة، ينتهي زمن إدارة ليأتي زمن إدارة أخرى، ولكن بين تلك النهاية والبداية اختلاف عن كل النهايات والبدايات السابقة في ذلك البلد الكبير والمؤثر. تبرز هنا أسئلة بعضها مباشر وبعضها عميق. من المباشر أن يُسأل هل تأثير السيد دونالد ترامب الرئيس المنتهية ولايته غداً في السياسة العامة، هو جرح بسيط على وجه الديموقراطية الأميركية سرعان ما يتلاشى؟ الكثير من تلك السياسات خارج السياق، أم ان الأسئلة الأعمق هي أن سياساتها بمجملها أحدثت خللاً وجرحاً عاثراً في وجه السياسة الأميركية سوف يبقى؟ من مظاهر الجرح العميق هو عدم الاعتراف بنتائج العملية الانتخابية وأيضاً بتأجيج جمهور ضد المؤسسات الرسمية الراسخة في بلد لا يمكن أن يُحكم إلا من خلال المؤسسات، الى حد اقتحام مبنى الكونغرس. أخذاً بالتطورات التي تمر بها صيرورة الليبرالية الديموقراطية في أكثر من مكان، فإن ما حدث في السنوات الأربع الأخيرة في الولايات المتحدة وبخاصة في العام الانتخابي الطويل له عنوان قد يكون “صعود نمط جديد من أنماط الحكم التمثيلي هو الحكم الشعبوي”.
أشكال الحكم التمثيلية في العالم كثيرة وحتى الحكم الشعبوي له صور مختلفة… ما هو جديد تبني النمط الشعبوي في أكثر الدول ديموقراطية وأقدمها. الديموقراطية الشعبوية، على تناقض المفهوم، ليست جديدة في العالم المعاصر، انتشرت في دول العالم الثالث بعد التحرر من الاستعمار وحمل مطبقوها ومنظروها ازدراءً خالصاً للديموقراطية التمثيلية. في منطقتنا المثال الأوضح هو الثورة المصرية عام 1952 ومن قلّدها من الضباط العرب في الحكم بعد ذلك، حتى وصلنا الى إلغاء الأحزاب و”من تحزّب خان” على رأي المرحوم معمر القذافي، بل حتى الحكم الإيديولوجي، كمثال على ما حدث في السودان في العقود الثلاثة الأخيرة برفض أي نوع من المشاركة، أو ما يحدث في إيران في الأربعة عقود الأخيرة.
هذا الازدراء لنظام الحكم الليبرالي القائم على المؤسسات المنتخبة من الناس اذاً، لم يكن جديداً. ما هو لافت ظهوره بقوة في الولايات المتحدة، حيث شكل نقد النخبة السياسية التقليدية حجر الزاوية في الانقلاب عليها شعبياً من خلال شعارات مثل “التجديد الأخلاقي” او “لنجعل أميركا عظيمة” وتشجيع السياسات الشعبوية بدلاً من المأسسة، ووصل الأمر الى اقتناع البعض أن تلك الشعبوية يمكن ان تكون دعوة مشروعة لتمكين افراد وحتى فرد من التسلط على الآخرين، ويمكنها بهذا المعنى أن تسود على المؤسسات والقواعد الدستورية، في إبدال مقولة “أنا الملك أنا الشعب!.
ما نشاهده هو عرض من عوارض الإعياء الذي اعترى الديموقراطية التمثيلية المؤسسية بعد أن قاومت وتقاوم الإصلاح المطلوب، لذلك وجدت الشعبوية تشجيعاً من قطاعات واسعة في بلاد مثل الولايات المتحدة، فالزعيم هنا يستغني عن هيئات صنع الرأي الوسيط التقليدية كوسائل الاعلام والمؤسسات المنتخبة والأحزاب، بل وحتى التشاور مع أهل الاختصاص… هو يتواصل مع الجمهور الأوسع مباشرة ويعتمد على حدسه الشخصي ويخاطب الغرائز . وسهلت وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة ذلك الطريق الشعبوي، فكان السيد ترامب أكثر رئيس أميركي استخدم تلك الوسائط للتواصل المباشر مع بشر يُعرّفهم عادة الزعيم بأنهم “الصالحون والأشراف وأفضل خلق الله” لصبغ غيرهم من المعارضين بالأشرار و الاعداء وحتى غير الوطنيين. الصراع هنا هو ما بين الديموقراطية المؤسسية وبين الديموقراطية الشعوبية، إن صح التعبير الأخير، وتبين أن المسعى الأخير هو مسعى مشوّه كاد أن يفتك حتى بالمؤسسات التي وفرت له تلك المساحة من الحرية، أي الهجوم على مبنى الكونغرس يوم 6 كانون الثاني (يناير) الجاري واستباحة حرمة أقدم وأرسخ مؤسسة ديموقراطية في الولايات المتحدة.
ما حصل بعد ذلك أن الزعيم انقلبت عليه “هيئات الرأي الوسيط” والتي طالما هاجمها، وحرمته من الإطلالة على جمهوره، لأن رأياً عاماً واسعاً تشكّل وإصابته القشعريرة، بعد الهجوم على الكونغرس، تبيّن له أن ما هو مطروح أكثر بكثير من نقد النخبة او عدم الرضا على عمل المؤسسات ولا يبرره حتى الانقسام المجتمعي الضخم. الضرر يمكن أن يصيب قاعدة الديموقراطية الليبرالية التي قد تُقوض كل المكتسبات التاريخية وتقود الى شمولية لا يستثنى منها أحد. شيخوخة النظام كما ظهرت جلية في التحزب (الأعمى) من الجمهوريين والديموقراطيين في المؤسسات المنتخبة والإصرار على تأييد كل فريق لفريقه والتسامح من قبل الجمهوريين “لشطحات” الرئيس و انفلاته، ذلك ربما مؤشر خطير لأعراض الإعياء الديموقراطي. هو ليس البحث عن الحقيقة كما يجب أن تكون بل التعصب للجماعة، ذلك الإعياء كان يعمل منذ زمن في المؤسسات المنتخبة الأميركية، ويؤكد ذلك كتاب السيد باراك أوباما “أرض موعودة” حيث أشار الى الطبيعة (القبلية) بين الحزبين الكبيرين، أي أن لا مشترك حتى في الأمور المعقولة بين الطرفين!.
ومن سير الأحداث أن العملية الديموقراطية في الولايات المتحدة بعد ترامب تحتاج الى إصلاح شبه جذري يمنع ظهور الشعبوية أو يقلل من مخاطرها على الأقل، فهل تستطيع مؤسسات الولايات المتحدة التغلب على الشعبوية الجديدة كما تغلبت على المكارثية التي ظهرت بين 1947 و 1957. وقتها مر المجتمع السياسي بمرحلة عصيبة حتى تبيّن أن الرجل اتّهم كثيرين ظلماً وعدوناً. بالطبع الشعبوية أكثر من مرحلة عصيبة، إنها محنة سياسية واجتماعية تحتاج الى علاج أوسع وأكثر شجاعة من طريقة معالجة المكارثية بكثير.
لا يوجد بلد في العالم حُشدت فيه العواطف الشعبية إلا وقادت الى إضعاف وربما إلى خلل في العقلانية السياسية.