بقلم: حسن إسميك – النهار العربي
الشرق اليوم- “السياسة عالم رحيب، مفاتنه موزعة على جميع المذاهب. السياسة هي الحياة”. عندما أفكر بـ “السياسة” تأخذني مخيلتي دائماً إلى هذه الجملة التي كتبها الأديب العربي نجيب محفوظ في روايته الصغيرة الجميلة “قلب الليل”. فما زلتُ أحاول أن أفكر بالسياسة بعيداً عن صورتها في أذهان الكثيرين، خصوصاً في منطقتنا العربية، الصورة المليئة بالمفاسد.
إن ما نعيشه اليوم من أوضاع سيئة وظروف قاسية في العالم العربي وخارجه، يجعل من حق الناس أن يظنوا سوءاً بالسياسة والسياسيين. وهذا ما عبّر عنه الديبلوماسي المحنّك هنري كيسنجر بقوله “إن تسعين في المئة من السياسيين يعطون للعشرة الباقية منهم السمعة السيئة!”.
من هو السياسي؟ إنه “الشخص الذي يمتلك القدرة والأدوات للتأثير على عملية صياغة القرارات أو إقرارها أو الحشد معها أو ضدها، ولديه فهم معمق للنظام السياسي القائم ولديناميات الجماعة”. هذا التعريف على بساطته قد يسقط صفة “السياسي” عن نسبة كبيرة من مدّعيها في الدول العربية.
على الرغم من أن جزءاً كبيراً من أزمة القرار السياسي في منطقتنا نابع من أنه يُتخذ من قبل شخص واحد، أو في أحسن الأحوال مجموعة صغيرة وضيقة ومغلقة، إلا أن هؤلاء في معظمهم ليسوا سياسيين حقيقيين، فالسياسيون ليسوا صنّاع قرار فقط، وليس كلّ صانع قرار بالضرورة سياسياً.
تقع على عاتق السياسي الذي يتخذ القرار مسؤولية أكبر، فالسلطة تُرتِّب على صاحبها بالضرورة بعض التبعات، كما أن تراجع النخب السياسية يعني، لا محالة، نكوصاً وتراجعاً في الحياة السياسية، كما هو الحال في عالمنا العربي.
وفي حين تعيش بعض دولنا حالة من الانكفاء السياسي، بالإضافة إلى قلة السياسيين الحقيقين في زمن تتوالى فيه الأزمات، نجد عرباً كثيرين منخرطين في أحزاب أوروبية مختلفة تمثل التوجهات كافة، وبينهم من وصل إلى قيادة كتل برلمانية وازنة. وهذا يقودنا إلى التساؤل عن أسباب انخراط العرب المهاجرين، خصوصاً في أوروبا وأميركا، في الحياة السياسية، وإحجامهم عن ذلك في أوطانهم الأصلية.
والواقع أن معظم السياسيين العرب هم كذلك “بحكم الأمر الواقع”، وضعتهم الأقدار في هذه المواقع من دون أن يختاروها، فهم إما من أسر سياسية في الأصل، وإما لهم تاريخ طويل من التدرج في مؤسسات الدولة المدنية وأحياناً كثيرة العسكرية.
ينطبق الأمر ذاته على الكثير من التنظيمات السياسية العربية، فهي قديمة مترهلة، أو يغلب عليها الطابع الديني، أو أنها حديثة العهد انفعالية نشأت نتيجة الأحداث التي شهدها العالم العربي منذ حوالي عقد من الزمن في ظل ما يسمى بـ “الربيع العربي” وتداعياته. لم تنتج هذه التنظيمات سياسيين حقيقيين، بل ظلت رهينة للخطابات السياسية المعارضة القديمة، والآليات العتيقة ذاتها التي أثبتت منذ زمن عدم قدرتها على إحداث التغيير الاجتماعي-السياسي المنشود.
وساهمت هذه التنظيمات في الانتقال بنا من حالة سياسيين بلا جمهور، إلى حالة جماهير بدون سياسيين، إذ واصلت اجترار الواقع نفسه من الاغتراب السياسي ما أدى إلى غياب التأثير والدور العربي الفاعل على الساحتين الإقليمية والدولية.
في المقابل، تطالب أغلب الشعوب العربية دائماً بالتغيير والتحديث، لكنها تبقى متمسكة بالأسماء التقليدية المألوفة نفسها. أما في الغرب، فيفوز، مثلاً، شاب مثل إيمانويل ماكرون بالانتخابات الرئاسية في أحد معاقل الديموقراطية في العالم بحزب أسسه بنفسه على وسائل التواصل الاجتماعي لم يتجاوز عمره عاماً واحداً، منتصراً على مارين لوبان ابنة العائلة السياسية وزعيمة الحزب الذي يزيد عمره على عشرات السنين.
لعل الجميع يقول إن المعرفة لا تصنع سياسياً جيداً ما لم تقترن بالخبرة، لكن هذا حقّ يراد به باطل. ففي الواقع لن يكون مهماً تاريخك في السياسة وخبرتك فيها، إذا كنت لاتملك مشروعاً واقعياً وواعداً. لذلك بات لزاماً علينا أن “ننتج سياسيين”، من خلال صناعة صارت لها أدواتها الخاصة المعروفة والواضحة في روسيا والغرب، والتي تبدأ من المدرسة وبعدها الجامعة ناهيك طبعاً بالمنظمات السياسية بطبيعتها، كالأحزاب والنقابات ومنظمات المجتمع المدني.
واللافت أن تدريس السياسة أو الاقتصاد أو القانون أو أي من فروع العلم المرتبطة بالشأن السياسي في الغرب لا يقتصر على الجانب النظري فقط، بل يتعداه إلى النواحي العملية والتطبيقية، فيخرج الطالب مستعداً لخوض غمار العمل السياسي. ويساعده على ذلك وجود مؤسسات وتنظيمات يتابع عبرها نشاطه في الميدان السياسي.
أما معظم جامعاتنا العربية فتدرّس هذه المواد تدريساً نظرياً محضاً. كما أُفرغ المجتمع المدني عندنا من مضمونه السياسي كشريك في صنع القرار، ومن ثم في الرقابة والمساءلة، ويقتصر دوره على بعض الأنشطة الخيرية. بالإضافة إلى أن قلة المنابر تمنع المحللين والمفكرين والباحثين من إسماع أصواتهم، ويحملهم غياب حرية الرأي على الهرب نحو مؤسسات بحثية ووسائل إعلام غربية. وهناك أسماء عربية في مراكز بحوث أوروبية وأميركية معروفة تنشر تقارير وبحوثاً حول بلداننا كان الأجدر بنا نحن أن نعدّها.
يجب أن تكون حرية الإعلام وحرية الصحافة والتعبير مكفولتين، حتى لا يشعر المثقفون أو الصحافيون العرب بالتهديد المستمر الذي يشعر به نظراؤهم في تركيا مثلاً، وطبعاً في إيران. كما ينبغي أن تدرك الحكومات العربية التي تريد بالفعل أن تخدم مصلحة شعوبها وأوطانها، أهمية دور الإعلام في كشف الظلم والفساد وضبط الأداء الحكومي وتوجيه بوصلته، وعلى المثقفين العرب في المقابل أن يقوموا بدورهم الفاعل بعيداً عن مكاسب ضيقة أو اعتبارات شخصية.
فالمشكلة تكمن في أن الساسة العرب ما زالوا حبيسي الماضي بأفكاره التسلطية القديمة، وعليهم أن يعرفوا أن الحرية الإعلامية تكمل الحرية السياسية، وقبول الرأي الآخر كأداة لتعزيز الديموقراطية وتعميق الليبرالية وصولاً إلى عصرنة الدولة.
إن حالة العجز عن إنتاج رموز سياسية جديدة أو فاعلين سياسيين حقيقيين تعكس مجموعة كبيرة من المشاكل التي تعاني منها مجتمعاتنا العربية على الصعد السياسية والاقتصادية والفكرية وعلى المستويين الرسمي والشعبي.
في غضون ذلك، تقوم عملية إنتاج “الممثل السياسي” أو “النخب السياسية” على قدرة المجتمع على التعبير السياسي من جهة، واستعداده من جهة أخرى لتطوير وسائله بحيث تكون مناسبة لتنفيذ هذه المهمة.
إذن، فالمسؤولية مزدوجة وتقع على عاتق الشعب والحاكم بالمستوى ذاته، لاختيار الممثلين على نحو يفصل بين السياسي والديني، ويضمن عدم انقضاض تنظيمات الإسلام السياسي على السلطة، ويبتعد عن خطابات المعارضة التقليدية وأدواتها الفكرية والإيديولوجية البالية.
من المؤكد أن الوصول إلى هذه الحالة المثالية من التناغم بين شعب قادر وقيادة تمثله وتحفظ حقوقه أولاً، ووازنة سياسياً على الساحات المختلفة ثانياً، لا يتحقق في مجتمعات غير مستقرة. لذلك نحتاج كعرب، أولاً وقبل كلّ شيء، إلى السلام أولاً، فاستمرار الصراعات والحروب وانتشار التطرف والإرهاب يجعل من المشاركة السياسية أمراً ثانوياً لدى الناس إذا قورنت بالتركيز على أمنهم الشخصي ويركز اهتمام صنّاع السياسة على التصدي للأخطار التي تتهدد الأمن، الأمر الذي يفتح الباب على مصراعيه على التعسف والتسلط.
وعليه، ينبغي بنا جميعاً أن نطوي صفحة العنف ونضع حداً لصراعاتنا الداخلية والخارجية، وأن ننهي حالة “اللاحرب واللاسلم” التي تناولتها من قبل في مقالات عدة، لأنها تعوق حركتنا وتمنعنا من المضي الى الأمام.
وإذا أراد القادة العرب اليوم أن يتحولوا إلى رموز فعلاً أو أبطال تحرك التاريخ المعاصر، فعليهم حقاً أن يكونوا قادة وسياسيين من الطراز الرفيع قادرين على اتخاذ أصعب القرارات في أحرج اللحظات، من دون تردد أو تلكؤ وكذلك دون تهور أو تسرع أو إهمال لأيّ من الحيثيات، فالشعب العربي لن يرضى في المرحلة المقبلة بأنصاف الحلول، كل شيء أقل من السلام الشامل والأمن والاستقرار لن يكون كافياً.
وللحديث بقية…