بقلم: عبد الله السناوي – صحيفة الخليج
الشرق اليوم- المساجلات الأمريكية إثر اقتحام مبنى الكونجرس تنبئ عن تفاعلات عميقة تتجاوز ما هو ظاهر على السطح السياسي.
القضية ليست أن يغادر الرئيس المنتهية ولايته دونالد ترامب البيت الأبيض معزولاً الآن وفوراً بتهمة “التحريض على التمرد”، أو أن يستكمل مدته لأيام وساعات متبقية لحين تنصيب الرئيس المنتخب جو بايدن.
ولا كانت محاكمته المفترضة لمرة ثانية أمام مجلس الشيوخ في الوقت بدل الضائع، تستحق كل تلك المساجلات، التي عمت الولايات المتحدة بمؤسساتها وصحافتها وإعلامها وكل شيء يتحرك فيها.
نظرياً: كل شيء على ما يرام، بعد أن اضطر “ترامب” مرغماً في شريط مصور إلى إدانة الاقتحام المروع والتبرّؤ من مناصريه، الذين خطب فيهم محرضاً، حتى يفلت من أية مساءلة قانونية.
في الشريط المصور لم يتطرق إلى سيناريو محاكمته بنصيحة من مستشاريه القانونيين، لكنه كان قد لوح قبله بأن عزله سيقابل بغضب عارم!
القضية ليست هنا. التنازع على المستقبل صلب ما يجري الآن من مساجلات سياسية حول مغزى محاكمة “ترامب” يوم (19) يناير الحالي، قبل يوم واحد من تنصيب الرئيس الجديد!
الديمقراطيون يحاولون اقتناص ما أبداه من تهور وحمق في حادث الاقتحام لتصفية حسابات سياسية وشخصية معه والنيل من مركز وصورة الحزب الجمهوري.
هكذا أبدوا تماسكاً كاملاً حول مطلب عزل “ترامب” بالمحاكمة لمنعه مستقبلاً من تولي أي منصب فيدرالي، وإنهاء أية فرصة أمامه للترشح للانتخابات الرئاسية عام (2024).
يلخص موقف رئيسة مجلس النواب، نانسي بيلوسي، قدر الحزم في النيل من ترامب.. “إنه خطر على الولايات المتحدة ولابد أن يرحل فوراً”.
والجمهوريون منقسمون بفداحة حول مدى الضرر الذي يمكن أن يلحق بالحركة المحافظة في أية انتخابات مقبلة، ومدى القدرة على الخروج على إرث “ترامب” دون تشققات كبيرة داخل الحزب.
هكذا تباينت المواقف داخل قياداتهم في مروحة واسعة نسبياً مالت أغلبها إلى التصويت ضد محاكمة “ترامب” وتقبل توبيخه.
يلخص موقفا نائب الرئيس مايك بنس، وزعيم الأغلبية الجمهورية في مجلس الشيوخ ميتش ماكونيل، قدر الحيرة التي استبدت بهم. الأول، ذهب إلى “نصف انقلاب” على “ترامب”، أعلن التزامه بإرادة الناخبين في صناديق الاقتراع ورفض «”قلب نتائج الانتخابات الرئاسية” بصفته رئيساً لمجلس الشيوخ في جلسة التصديق، لكنه رفض تفعيل التعديل الخامس والعشرين من الدستور الأمريكي، الذي يبيح له عزل الرئيس.
والثاني، ذهب أبعد قليلاً في التخلص من إرث “ترامب” وسطوته، دانه بحسم وحمّله مسؤولية اقتحام مبنى “الكابيتول” وأنه يستحق المساءلة غير أنه مانع عزله بالمحاكمة، بذريعة أن الوقت لا يسمح، فيما هو يحاول أن يمنع تفكك وحدة الموقف الجمهوري مراهناً على الوقت لطيّ صفحة “ترامب” وتقويض نفوذه.
رغم الحدة في المساجلات الأمريكية إلا أنها لا تلخص حقيقة الأزمة ولا مدى خطورتها. الأزمة تاريخية وبنيوية تعود أصولها إلى إرث الحرب الأهلية بين عامي (1861) و(1865) على خلفية الصدام بالسلاح بين ولايات الشمال والجنوب في قضية العبودية.
رغم التطورات الجوهرية، التي لحقت بالمجتمع الأمريكي وبروز أدوار الأقليات في السياسة العامة، إلا أن العنصرية ما زالت تقسمه وتهدد وحدته.
في أي نظام ديمقراطي لا معقب على إرادة الشعب بصناديق الاقتراع، وليس متصوراً “قلب النتائج” على أي نحو من مجمع انتخابي، أو من مجلس نيابي!
رغم النجاح الذي حازته المؤسسة الأمريكية في مواجهة التفلتات غير المسبوقة لساكن البيت الأبيض إلا أنه لا يخفي قدر الاهتزاز الذي ضربها ووضع المستقبل الأمريكي كله بين قوسين كبيرين.
ذلك النجاح استبعد مؤقتاً أية سيناريوهات لتفكك الولايات المتحدة بأثر التنازع على طبيعة الدولة نفسها، إذا ما كانت دولة تتسع لكافة مواطنيها على قدم المساواة بغض النظر عن أصولهم العرقية، أم أنها دولة الرجل الأبيض وحده صاحب الحق الحصري في الثروة والسلطة؟
بترجمة سياسية فإن قدر الكفاءة التي أبدتها الديمقراطية الأمريكية في تطويق الأزمة غير المسبوقة منعت “السيناريو السوفييتي” الذي ضرب القوة العظمى الثانية بالتفكك مطلع ثمانينات القرن الماضي، من أن يمضي إلى آخره لكنه بصورة ما يزال ماثلاً في المكان بتساؤلات لا يمكن تجاهلها.
ما مغزى ما أقدمت عليه رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي، من اتصال برئاسة هيئة الأركان للقوات الأمريكية بذريعة الخشية من أن يدفع رئيس غير متزن البلاد إلى حرب مفاجئة، أو أن يستخدم السلاح النووي؟ كان ذلك الاتصال سابقة في التاريخ الأمريكي كله، وهو خروج عن مقتضيات منصبها أياً ما كانت أسبابها.
في أوضاع شبه طبيعية فإنها تستحق التوبيخ. وما مغزى البيان، الذي أصدره قادة “البنتاجون” عن التزامهم مقتضيات الدستور في الوفاء بمهامهم؟
في أوضاع شبه طبيعية فلا حاجة لإصدار مثل هذه البيانات، أو تأكيد ما هو ثابت ومؤكد. وما مغزى الإجراءات الأمنية المشددة وفرض الطوارئ في واشنطن، والأعداد الكبيرة من الحرس الوطني، التي ترابط في المكان، وتفترش قاعات وردهات مبنى الكونجرس؟
الإجراءات ضرورية لكنها تنطوي على توقعات بانفلاتات محتملة، يوم التنصيب أو بعده.
في حدود ما حدث نجت الديمقراطية الأمريكية من الأفخاخ المنصوبة، غير أن أشباح ما جرى ما زالت تحوم في المكان.