بقلم: حسن منينمة – الحرة
الشرق اليوم- ضمن مسلسل الخيال العلمي الشهير من ثمانينات القرن الماضي وتسعيناته “درب النجوم – الجيل التالي”، ترد شخصية متجاوزة للأبعاد، بقدرات إلهية على الخلق والإفناء وطي الزمان والمكان، هي شخصية “كيو”. عابثة، مطّلعة على كامل الخفايا، ومنشغلة بالإنسان عامة، وبقائد المركبة الفضائية، بطل المسلسل، خاصة. حاضرة في أولى حلقات المسلسل، ثم عند خاتمته، إلى حد يمكن معه إعادة تصوير المسلسل بكامله، رغم غيابها عن معظمه، على أنه قصة السجال، الصراع، التفاعل، بين هذه الشخصية المجسدة للعالم الكبير، وقائد المركبة الإنسان والذي يختزل العالم الصغير.
بل في هذا التصوير استعادة ضمنية لرواية من الأسفار العبرية. ألم يكتسب “يعقوب” اسم “إسرائيل” بعد صراعه مع كائن علوي، هو ملاك الإله في بعض التفسيرات، أو الإله نفسه في تفسيرات أخرى، لتكون الغلبة له، أي للإنسان، أو على الأقل دون أن تكون الغلبة للكائن العلوي، بما يرفعه، يعقوب، الإنسان، إلى مقام مخصّص؟ (اسم “إسرائيل” دمج لعبارة مبهمة قد تكون بمعنى “من رفعه الإله” أو “من ارتفع على الإله”).
السردية الرائجة في الأوساط التي تشهر شعار “كيو” في المحيط السياسي المساند للرئيس الحالي دونالد ترامب. تتماهى عمداً واتفاقاً مع مقومات عدة من رواية “كيو” في الخيال العلمي والديني، وترتقي معها بترامب إلى مرتبة المصطفى المختار. هي سردية على طبقات، تبتدئ بأقدار من المعقولية، لتصل إلى عميق الشطح الغيبي.
ترفض سردية “كيو”، حتى عند أقرب صيغها إلى المعقول، ما توافق عليه الخطاب السياسي في الولايات المتحدة بأمسه، بأن الخلاف هو بين أطراف متواطنين تجمعهم المصلحة وإرادة الخير بالإجمال، وإن خطّأ بعضهم البعض الآخر، وإن ظهر بينهم بأفراد التفصيل، من ساءت نواياه.
الآخر، في عموم سردية “كيو”، ليس الخصم الذي يستحق أن يُصغى إليه، بل هو ضال أو مضِّل، قاصر أو مقصّر، وفي كل الحالات متسبب بالأذى، غارق بالشر، مستوجب للإدانة.
لسان حال الطبقة الأولى من سردية “كيو” هو أنه ثمة “نخبة” متفرّدة في الولايات المتحدة، ذات امتدادات عالمية، تهيمن على السياسة والمال والإعلام، وتدفع ما يناسب مآربها على الفكر والثقافة والمجتمع. لها من الميول والسلوك ما يتعارض مع قناعات عموم الناس وتقاليدهم ودينهم، غير أنها قادرة على تغليبها بالإغواء والتأثير، أو بالقوة والإكراه، ومن خلال إخضاع أعداد واسعة من التابعين، بإتاحة الفتات لهم وتسييرهم وفق رغباتها.
“كيو” ترى أن دونالد ترامب يشكل بالتالي خطراً جسيماً على هذه “النخبة” إذ هو قد عقد العزم على الإطاحة بمخططاتها وتمكين المواطن في الولايات المتحدة من استعادة ما خسره من ثروة ووظائف ومن تحقيق العزّة التي افتقدها.
كيف يصحّ هذا الطرح، تشخيصاً ودواء، في حين أن ترامب، بسجلّه وخلفيته وعلاقاته وطموحه المعلن، هو من نتاج هذه “النخبة”، وإن لم يتمكن من البروز فيها؟ لا حاجة للإجابة، فالمسألة هي بالقناعة الإيمانية لا بالحجة العقلية.
ما تضيفه سردية “كيو” على الطرح الطبقة الأولى هذا، وهو الطرح الراسخ في كامل القاعدة الانتخابية لترامب، هو إشارتها إلى تنسيق خفي بين ترامب، المولج بحكم موقعه الرئاسي بالتصدي لهذه النخبة، وبين «كيو» نفسه كجهة مطلعة على دقائق الأمور في هذه المواجهة الحرجة، مفوّضة من ترامب، وإن دون إفصاح أو إشهار، إبلاغ القاعدة ما يتوجب عليها الاطلاع عليه.
الطبقة التالية من السردية، وهي كذلك ذات رواج واسع، هي التي تجعل لهذه “النخبة” المعولمة شريكاً في “الدولة العميقة”، أي في مؤسسات الحكم الولايات المتحدة. فالعدو بالتالي ليس “النخبة” التي استولت على الدولة وحسب، بل الدولة نفسها والتي تشكل نقيضاً للمصلحة الوطنية. فالإطاحة بـ”النخبة” كان ليكون ممكناً من خلال الانتخابات لولا أن “الدولة العميقة” قادرة على التزوير بما يجعل تحقق الإنصاف مستحيلاً.
دونالد ترامب خاض انتخابات 2016 في مواجهة “النخبة”، ثم خاض انتخابات 2020 في مواجهة “الدولة العميقة”. وكلامه قبل معاد التصويت حول أن خسارته لن تكون إلا بالغش والتلاعب ليس نتيجة غرور وغطرسة، بل تبيان لطبيعة المواجهة غير المتوازية وغير المتوازنة مع “الدولة العميقة” الممسكة بزمام الأمور.
أين الدليل على هذه اليد العليا القابضة؟ وأليس نقض المحاكم والمرجعيات، المستقلة منها والمحازبة من كلا الحزبين، لعشرات الاعتراضات والدعاوى حول التزوير المفترض والمخالفات المزعومة برهاناً قاطعاً على أن هذه الرؤية تفتقد الصدقية؟ لا، بل العكس هو الصحيح، أي أن رفض الجهات القضائية والتنفيذية، من المحاكم الابتدائية في الولايات إلى المحكمة الدستورية العليا قبول الطعون، وإصرار المسؤولين الإجرائيين، بمن فيهم الجمهوريين، على السير قدماً بالنتائج المزعومة للانتخابات هو الدليل الحاسم على مدى استفحال نفوذ “الدولة العميقة”. نعم، غياب الدليل هو بحد ذاته الدليل على قدرة هذه القوة الخفية على إخفاء الدليل.
حين كانت المرأة في القرون الوسطى في أوروبا تتهم بأنها ساحرة، الحكم كان يقضي برميها مقيّدة في النهر. فإن تمكنت من الإفلات من قيدها والنجاة يكون ذلك الدليل على أنها بالفعل ساحرة، فيقبض عليها وتقتل. أما إذا غرقت وماتت، فتكون قد أثبتت براءتها.
منطق “كيو” يحاكي منطق محاكم القرون الوسطى. فالقضية ليست استيضاح ما إذا كانت ثمة مادة متوفرة من المعطيات والقرائن والأدلة تؤيد الطرح حول حقيقة مواجهة مفترضة مع “النخبة” و”الدولة العميقة”، بل السؤال عن كيفية نجاح هذه “النخبة” وهذه “الدولة العميقة” بإخفاء المادة التي تدينها. فالقناعة هنا إيمانية والمنطق دائري.
غير أنه لسردية “كيو” طبقات أعلى. فالمواجهة ليست حصراً سياسية أو اقتصادية، أو اجتماعية أو ثقافية. بل العالم يشهد احتدام الصراع بين “قوى الخير” و”قوى الشر”، فيما يتعدى التصوير المجازي.
الحياة الدينية في الولايات المتحدة تزخر بأعداد من “الأنبياء” الذين يخاطبون الإله ويخاطبهم، بشهادتهم الذاتية، وهؤلاء مجمعون بأن الإرادة الإلهية، بل الربانية، هي بأن ترامب هو المصطفى، للرئاسة بعهدة ثانية بالتأكيد، ولكن كذلك لجلاء الوعد المكتوب في الأسفار المقدسة. بعض هؤلاء “الأنبياء” يقع خارج إطار التصنيف الديني المباشر، أي قد يمزج المسيحية بالديانات الجديدة ومذاهب “العصر الجديد”. غير أن أكثرهم هم من الإنجيليين. وإن كانوا بمجموعهم لا يخاطبون مباشرة إلا أوساط محدودة حتى من الإنجيليين، إلا أن أطياف مواقفهم المتقدمة هذه تطال العديد من الدعاة والمؤمنين بفعل زخمها الخطابي وإمكانيات الربط بين مقتضياتها والقراءات التفسيرية للنبوءات القديمة.
وفيما يتعدى الإنجيليين، فإن إيجاد مكان للمرحلة الحالية ولشخص دونالد ترامب في القراءات الدينية ينشط، وإن بنسبة أقل، في أوساط الكاثوليك الرافضين للمنحى التقدمي للكنسية منذ المجمع الفاتيكاني الثاني، وهؤلاء يزدادون عدداً واندفاعاً، وتنمو في أوساطهم القراءة التي تجعل من ترامب السند في مواجهة هجمة شيطانية، بالمعنى الحقيقي للكلمة، تشكل الجائحة وجهاً من أوجهها، تمهيداً لخروج الدجال.
وعند هامش التجربة الدينية اليهودية في الولايات المتحدة، يعمد بعض الربانيين المتصوفين (القباليين) إلى فك ألغاز مفترضة في نصوص التوراة تضع ترامب في صدر الملاحم والفتن الموعودة إرهاصاً بقدوم المسيح.
هذا الشطح، من الغيبية السياسية التي ترى قوى شر دنيوية، نخبة ودولة عميقة وعولمة، في صلب المؤامرة التي يتصدى لها دونالد ترامب، إلى الغيبية الدينية التي تقحم الشيطان والعفاريت والملائكة، لا يشكل قناعة ثابتة أكيدة لدى كل من اعتنق “كيو”، ولكنه حاضر، بمقادير وتأثيرات متفاوتة في صفوف المتابعين لهذا التوجه، بما ينقل مركز الارتكاز الفكري في الأوساط المؤيدة لترامب إلى تثبيت المؤامرة. أي أن القول بانعدام المؤامرة سذاجة، والقول بالغيبية الدينية ربما مبالغة. وعليه فالإقرار بأن قوى خفية تتحكم بالعملية السياسية في الولايات المتحدة هو التصور الوسطي المنطقي الموضوعي.
وإذا كان الأمر كذلك، فإن اقتحام مبنى الكونغرس ليس اعتداء على رمز وطني، ويحك، بل هو تأكيد موجّه للدولة العميقة، ومعها النخبة وقوى العولمة، بأن الساحة ليس متاحة لها دون تحديات. وهو تأكيد معرّض لأن يتكرر دون شك في المراحل المقبلة.
الأجهزة الأمنية في الولايات المتحدة كشفت للتوّ عن خطط لاعتداءات على المباني الحكومية تستعد لها مجموعات مؤيدة لترامب. لن تفضّ هذه المسألة من خلال ملاحقة أفراد هذه المجموعات وتحذيرهم أو توقيفهم وحسب، بل لا بد من مواجهة واقع أن “اليمين” في الولايات المتحدة يشكل حاضنة عقائدية منتجة للتطرّف، عبر التدرج الذي تجسده طروحات “كيو”. المسألة على قدر كبير من الخطورة، لا ينفع معها التسفيه والتجاوز والقمع والإنكار. بل لا بد من التحضير لمواجهة طبقات هذه السردية، من أقصاها الغيبي إلى أدناها المعقول.
ملاحظتان على الهامش: الأولى هي الدعوة للقارئ العربي أن يعتبر الشطح السياسي الديني في الولايات المتحدة ليقارنه بما تشهده ساحته الفكرية والدينية. ذلك أن أوجه التشابه، إلى حد التماهي، عديدة رغم اختلاف المنطلقات. والثانية هي أن الإشارة هنا هي إلى الشطح الغيبي لدى “اليمين” في الولايات المتحدة، دون أن يكون ذلك حكراً عليه وأن مظاهره لدى “اليسار” ذات حدّة وعواقب تجاري ما لدى هذا “اليمين”.