بقلم: الحبيب مباركلي – العرب اللندنية
الشرق اليوم- بعد عشر سنوات من عمر الثورة التي ضجّت بها هتافات المحتجين في كل المحافظات التونسية بدءا من سيدي بوزيد المنسية، مرورا بالقصرين التي يئنّ شبابها تحت نير الظلم والحيف والبطالة وليس انتهاء بتونس الكبرى وأحيائها الشعبية المفقرة، ما زالت على ثقة بأن السؤال الذي طرح نفسه بين أطياف واسعة منذ فترة طويلة لا يزال يبحث عن إجابات: تونس إلى أين؟
تونس اليوم في مفترق طرق. لا هي قادرة على الصمود في وجه العنتريات التي يخوضها رجال السياسة ولا باستطاعتها لملمة جراحها للنهوض من شبح الأزمة الاقتصادية الساكنة ولم تتزحزح من فرط المهادنة وتعطيل الإنتاج في أكثر من مكان. ليزيد سأم الطبقات الاجتماعية نتيجة السقف العالي للمطلبية من إرباك الدولة وتقييد تحركاتها على جميع الأصعدة.
لا حاجة اليوم للتونسيين لإحياء شعارات رنانة تختزل تظاهرهم في يوم ظنوا أنه كان فاتحة ليتخلصوا من إرث نظام جثم على قلوبهم لمدة 23 عاما بالتمام والكمال ولم يجترح فيها حلولا لمشاكلهم ويحقق مطالبهم في التنمية والتوازن الاجتماعي. فهاهم يقفون اليوم بعد مرور نصف هذه المدة الزمنية من رحيل زين العابدين بن علي ولا شيء تحقق مما تركه هو لحظة هروبه في مثل هذا اليوم إلى المملكة العربية السعودية.
فقط ما بقي عالقا بأذهان البعض ربما من ثورة حرّكت مشاعر الشعوب في التغيير وصفق لها العالم بأسره، لا يتعدى حماسة صوت ذلك المحامي الذي تحدّى الجميع ذات ليل وخرج ليدغدغ المشاعر بكلمات فيها من الثورية الشيء الكثير أبكت التونسيين ومازالوا يحنون لإعادة سماعها على منصات التواصل الاجتماعي والكثير منهم حفظ كلماتها عن ظهر قلب، أو ذلك الشيخ الطاعن في السنّ الذي ترك كلمته المأثورة “هرمنا من أجل هذه اللحظة التاريخية”.
مرّت اللحظات والدقائق والساعات والأعوام أيضا وهرم التونسيون والكثير منهم أخذه قطار الانتظار إلى غير محطة النزول التي كان يأمل ويمنّي النفس بالنزول فيها. ولكن لا شيء تحقق غير الأمنيات والوعود التي لم يعد يأبه التونسيون لها ولا ينتظرون سوى أن يمضي يوم ويأتي مثله أو أسوأ منه ربما.
هذه النظرة يلحظها أي مراقب لمشاكل تونس من الداخل وأي متابع للأوضاع عن كثب، في الصحة والرعاية الاجتماعية والتعليم والنقل والخدمات العمومية بجميع صنوفها. تونس اليوم من أكثر البلدان فقرا بشهادة المنظمات العالمية والتقارير الدولية. تونس اليوم من أكثر البلدان التي يهاجر أبناؤها هربا من الوضع البائس وقلة الموارد وضعف الرواتب في جميع القطاعات.
تونس دُوّنت أيضا الأولى ضمن قائمة البلدان التي تمول التنظيمات الإرهابية في مناطق الصراع، ما يعني أن كمّا هائلا من شبابها قد ضحت به ثورة يناير بلا رجعة بعدما عمّر أصحاب اللّحى المكان وشرعوا في بث سمومهم في الشباب التائق إلى الحرية والخلاص ليجد نفسه محملا ببنادق الكلاشنيكوف ويحارب إخوته من المدنيين العزل في كل مكان من سوريا إلى ليبيا وغيرهما من البلدان العربية التي مازالت تئن تحت نير البنادق.
لسائل أن يسأل عما جناه التونسيون بعد عشر سنوات من المهاترة وضعف الأداء السياسي والتعصب في الرأي وغيرها من الأيديولوجيات المقيتة التي حكمت الطبقة السياسية المراهقة في هذا القطر الذي كان في يوم ما مقصدا لعدة شعوب وحكام يتباهون بزيارته لسبر أغواره وكشف إرثه التاريخي العميق.
ما حاد بتونس عن طريقها معلوم الهوّية والطباع ومعلوم التاريخ أيضا. لا يمكن لأي تونسي اليوم أن ينتصر لثقافة أنه بات حرا يعبر عمّا يشاء وكيفما يشاء ويقول ما شاء. الحرية كما يقول بعضهم “لا تؤكل خبزا”.
كان لتونس أن تسلك غير هذا الطريق الذي أريد لها أن تسلكه وأن تكون الاستثناء فعلا لو توفرت الإرادة القوية لسياسييها ووقوفهم صفا واحدا خدمة لشعار “تونس أولا”. لكن ما بدا واضحا أن تونس تركت في الصف الثاني وغلبت أنانيةُ البعض وطنيتهم وظلت تونس ثانيا وربما أخيرا.
الكرة الآن في ملعب الشعب، رغم أنه مكبّل بوضعيات ودروب شتى تعطّل تحركه للقصاص من كل الذين أربكوا الدولة وأسهموا في تعطيل سيرها نحو المسار السليم. التونسيون ليسوا دعاة فتنة وعنف. في كل تونسي تجد بذرة إنسان حنون يحملها بأعماقه مهما كانت غلظته. مهمّ جدا التركيز على هذا الجانب الإنساني في التونسيين، لكن أن يكون الأمر مدخلا لاستغلاله لقناعة مغلوطة بأن التونسي لن يثور مجددا ضد الظلم والحيف، فذلك أكبر وهم.
واهم من يعتقد أن الثورة التي اقتلعت جذور نظام بن علي لن تتكرر. الأجواء الملبّدة الآن في تونس توحي بمخاض آتٍ إن لم يع الفاعلون السياسيون أن مهمتهم تبدأ الآن بترميم ما فات ودونه يبقى لتونس والتونسيين أن ينهضوا لكسر تلك المغالبة التي يعيشونها منذ عشر سنوات من ثورة بزغت ذات ربيع ولم تحقق أهدافها إلى الآن.