بقلم: علي الصراف – العرب اللندنية
الشرق اليوم– ما الذي دفع الرئيس دونالد ترامب إلى أن يرتكب تلك الحماقة التي تدفع اليوم إلى محاولة عزله أو محاكمته؟ وما الذي جعله يعتقد أن بإمكان متظاهرين يحتشدون أمام مبنى الكونغرس أن يقلبوا نتيجة الانتخابات؟
هل يكفي “الانفصال عن الواقع” لكي يقدم تفسيرا؟ أم إنها مشاعر العظمة المفرطة؟ أم الـ75 مليون ناخب الذين صوتوا له؟ أم مزاعم التزوير التي لم تثبت صحتها المحاكم؟
الديمقراطية، ليست انتخابات فحسب. إنها إجراءات أيضا. والكونغرس كان يقوم بعمل ذي طبيعة إجرائية، للمصادقة على النتائج التي قدمتها المجمعات الانتخابية في ولايات البلاد. هذه المجالس نفسها كان عملها إجرائيا أيضا. بمعنى أنها، بعد فرز الأصوات، عرفت من هو الذي فاز بالأغلبية، وكان من الطبيعي وفقا للنظام القائم، أن يتم منح الفائز كل أصوات الولاية (باستثناء ولايتين توزعان الأصوات حسب النسب). فكانت النتيجة ما كانت. فلماذا ظل يُنكر ويستنكر؟
وهو يكذب كلما تنفس. ولعله لا يكذب على الناس، ولكنه يكذب على نفسه بالدرجة الأهم، والأكثر خطورة.
صحيفة “واشنطن بوست” ظلت تتابع أكاذيب ترامب منذ مطلع رئاسته، وأنشأت قاعدة بيانات للكذبة وما يقابلها من الواقع، وانتهت إلى أن ترامب أدلى بـ1628 كذبة في غضون 300 يوم، وتوقعت أن يتجاوز الرقم ألفيْ كذبة عندما تنتهي مدة رئاسته. أي أنه كان يكذب 5.4 مرات في اليوم الواحد.
مزاعم تزوير الانتخابات ظلت مزاعم، لأن المحاكم لم تتمكن من إثباتها. وبالنسبة إلى دولة قانون، فإن تلك المزاعم كان يجب أن تتوقف كليا. فعندما يقول القضاء كلمته، يتعين أن تكون الكلمة الفصل. تلك هي القاعدة. أما أن تجادل فيها، فكأنك تنكر على القضاء حقه. وأما أن تبقى المزاعم لتشكل حافزا لأعمال احتجاج، فتلك زيادة خارجة عن الحد.
أصوات الناخبين الـ75 مليونا، ضخمة بالفعل. إلا أنها أقل في النهاية من الـ83 مليونا الذين صوتوا للطرف الآخر. فإذا كان من المنطقي أن تقبل بأحد جانبي النتيجة، فمن المنطقي أيضا أن تقبل بجانبها الآخر. وحتى لو كانت هناك أعمال تزوير، ولا يمكن إثباتها، فلقد توفرت وسيلة أخرى للتأكد من الحقيقة.
الانتخابات التكميلية لعضوية مجلس الشيوخ في ولاية جورجيا، كررت النتيجة نفسها. فاز المرشحان الديمقراطيان بالفارق الطفيف نفسه الذي فاز به جو بايدن في الانتخابات الرئاسية. ووسط أجواء الاتهامات والمزاعم والشكوك، فقد كانت تلك النتيجة تكفي لكي تلقم الشكوك حجرا. تلك الانتخابات، كانت إلى حدّ بعيد نوعا من انتخابات “إعادة” رئاسية في تلك الولاية. ولو جرت مثلها في كل الولايات الأخرى فمن الأرجح أنها سوف تكرر الشيء نفسه. وعلى أي حال، فإن ولاية واحدة تكفي، لتقدم الشاهد الأخير. فلماذا تمسّك ترامب بمزاعمه؟ ولماذا انساق إلى التعويل على أن يتمّ قلب الخلاصات الإجرائية التالية؟
أعضاء الكونغرس يملكون الحق بالاعتراض. يكفي عضوان فقط، لكي تجبر المجلس على أن يجري نقاشا حول المسألة. هذا النقاش يعود ليستند إلى أسس ومبررات. والقانون والمحاكم من أهمها. وعندما يقوم المجلس بالتصويت بعد ذلك، فإن المسألة تنتهي عند هذا الحد. لا شيء يبرر أي عمل آخر.
حسابيا، ما كان للاعتراض أن يُسفر عن تغيير النتيجة. وهو ما يعني أن الإجراءات ذات الطبيعة الاحتفالية أو الشكلية، كانت سوف تنتهي إلى الشيء نفسه، حتى ولو توفر لها عدد كبير من الشيوخ والنواب الجمهوريين. الحساب واضح. فعدا عن النواب والشيوخ الديمقراطيين، فإن عددا كبيرا من النواب والشيوخ الجمهوريين، أعربوا سلفا، عن عزمهم على تصديق النتيجة. فكيف كان يمكن لاقتحام مبنى الكونغرس أن يقنع من لم يقتنع من الأساس؟ وهل سبق للتظاهرات أن أدّت إلى تغيير القواعد في الولايات المتحدة؟ وهل كان من الجائز استخدام المتظاهرين لابتزاز نواب وشيوخ الكونغرس؟
لقد أظهر بعضهم من الجمهوريين ميلا واضحا لتحمل ضغوط ترامب والصمت على حماقاته، احتراما لقاعدتهم الانتخابية، أو لحاجتهم إليها، وليس بالضرورة لرضاهم بتلك الضغوط والحماقات. ولكن هناك الكثير منهم أيضا ندد به وعارضه ورفض مزاعمه. هؤلاء حتى وإن كانوا أقلية، فإنهم، حسابيا على الأقل، قوة حاسمة. فبأي معنى ظل ترامب يعتقد بأنه عندما يدفع الغوغاء إلى اقتحام الكونغرس كان سيعود ليكسبهم؟
نائب الرئيس مايك بنس، رفض الأخذ بالتعديل 25 من الدستور الذي يسمح له بعزل ترامب، لسببين واضحين: الأول، هو أن كل ما بقي من زمن سلطة ترامب أقل من أسبوعين. والثاني، هو أولئك الـ75 مليون ناخب. ولكنه عاد ليُبقي هذا الخيار قائما، خشية من حماقات أخرى. وهي إشارة واضحة إلى الرئيس ترامب بأن ينضبط في تصرفاته.
الحقيقة التي تتخفى من وراء كل ذلك، تقول شيئا واحدا، هو أن الرئيس ترامب مختلّ عقليا.
نكرانه للواقع، ومعاندته للمنطق، وأكاذيبه التي لا تنتهي، وتجاهله للحقائق حتى الحسابية منها، ورفضه الإقرار بسلطة القانون، كل ذلك يقدم دليلا لا لبس فيه على أن هذا الرجل يعاني من خلل عقلي، وأنه يحتاج إلى مراجعة طبيب.
إنه مهووس ليس بالسلطة. هذا افتراض جزئي سوف يُثبت أنه خاطئ. إنه مهووس بنفسه أولا. والهوس، مرض حقيقي. وهذا ما يجعل أفعاله ذات الطبيعة الهستيرية لا تراعي شيئا آخر من الحقائق الواجب أخذها بعين الاعتبار.
المهووس، يتجاهل البسيط من الحقائق، ويبالغ في ردود أفعاله. والشيء الوحيد الذي يخشاه هو الردع. لأن الوجه الآخر للهوس هو الخوف الشديد.
عزل ترامب، أو تقييد قدرته على التصرف خلال الأيام الباقية من رئاسته، لا يكفيان لمعالجة المشكلة. وقد لا يكون من المفيد محاكمته أصلا.
المختلون عقليا، لا جُناح عليهم. تلك هي الأخرى، قاعدة.
يمكن للكونغرس أن يفعل ما يشاء. ويحق للسيدة نانسي بيلوسي زعيمة مجلس النواب أن تغضب، لتبحث عن أيّ سبيل لعزل هذا الرجل. إلا أن العطف على المريض يظل واجبا.
لا توجد في تاريخ الولايات المتحدة سوابق لكيفية التعامل مع رئيس مختل عقليا. ولكن هذه هي الحياة. إنها تقدم الجديد دائما، وتثير تحديات مختلفة. ويحسن التعامل معها بغضب أقلّ، وانفعالات أقلّ.
هذا النوع من الأمراض لا يظهر فجأة. إنه ينمو ببطء. وليس من الغريب على الإطلاق، أنه احتاج إلى أربع سنوات في السلطة لكي يكشف عن نفسه بتلك الدرجة المروعة، وخاصة عندما شوهد في حفل داخلي (بشاشة هاتف ابنه) وهو يتابع من دون أسف مجريات اقتحام الكونغرس وأعمال الغوغاء. وهو لم ينتقد تلك الأعمال إلا عندما رأى العاقبة ماذا تعني بالنسبة إليه. أي فقط عندما اجتاحه الخوف.
هذا الرجل يستحق العطف، لا العقاب. إنه بحاجة إلى الذهاب إلى المستشفى وليس إلى السجن.