الشرق اليوم- منذ قرنَين ونصف تقريباً، يفتخر الأمريكيون بعمليات انتقال السلطة السلمية كل أربع أو ثماني سنوات، فيتباهون بـ”حُكم القانون لا الرجال” كما قال جيرالد فورد حين أقسم اليمين الدستورية غداة استقالة ريتشارد نيكسون في عام 1974، لكن لم يدرك جزء كبير من الأمريكيين أن الدستور الهش يتوقف على لباقة واستقامة رئيس البلاد قبل الهجوم العنيف والصادم على مبنى الكابيتول يوم الأربعاء بتحريض من الرئيس المتمرد وصاحب الأوهام الكبرى دونالد ترامب.
لم تنجح العهود الرئاسية والعمليات الانتقالية السلمية في المقام الأول بسبب كلمات مكتوبة على ورق، بل بفضل طبيعة الرؤساء المكلّفين بتنفيذ تلك الكلمات وحماية القواعد الدستورية. تَحقّق جزء من هذا النجاح من باب الحظ، نظراً إلى اختيار أشخاصٍ من أصحاب النوايا الحسنة. كان حظ الولايات المتحدة وافراً بمعنى الكلمة مع وصول أمثال أبراهام لينكولن قبل الحرب الأهلية، وفرانكلين روزفلت في زمن الكساد الكبير والحرب العالمية الثانية، وكينيدي خلال أزمة الصواريخ الكوبية، وفي هذا السياق، يقال: إن رجل الدولة الألماني أوتوفون بيسمارك أعلن في القرن التاسع عشر: “الله يمنح عناية خاصة للأغبياء والثملين والولايات المتحدة الأمريكية”.
بالعودة إلى الزمن المعاصر، شعر عدد كبير من مناصري ترامب (حصد 74 مليون صوت) بالاستياء من نتيجة الانتخابات لكن لم يتوقع الكثيرون أن يصل الوضع إلى هذا المشهد غير المسبوق، فقد اتّضحت معالم الغطرسة الأمريكية بالكامل يوم الأربعاء، بعدما خيّب نائب الرئيس مايك بنس آمال ترامب وأعلن أنه لن يتدخل في احتساب الأصوات الانتخابية (ما يضمن المصادقة على فوز جو بايدن بالرئاسة)، فاقتحم آلاف الناس مبنى الكابيتول وكسروا النوافذ وأجبروا الشرطة على سحب أسلحتها وسيطروا على المبنى. لم تواجه وحدة الشرطة الصغيرة في الكابيتول هذا النوع من الأحداث يوماً، لذا صدمها هذا الاعتداء الذي يُعتبر أول هجوم مباشر على الكابيتول منذ حرب عام 1812. تمّ إجلاء بنس وأعضاء الكونغرس من المكان وغزا مثيرو الشغب مكتب رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي وقاعة المجلس، وتعرّض الكثيرون للإصابات وقُتلت امرأة خلال هذه الأحداث، ويقال أيضاً إن ثلاثة آخرين قُتلوا تزامناً مع فرض حظر التجول في واشنطن.
بدأ كل شيء بمسيرة بالقرب من البيت الأبيض، حين شجّع ترامب المحتجين على التوجه نحو مبنى الكابيتول لدعم أعضاء الكونغرس المعترضين على نتيجة الانتخابات، ثم حرّض ترامب على متابعة التمرد عبر تغريدة ذكر فيها أن بنس “لا يتمتع بالشجاعة الكافية للقيام بما يلزم لحماية بلدنا ودستورنا”.
وحتى بعد خروج أعمال العنف عن السيطرة، دعا ترامب الناس إلى الحفاظ على “سلمية الاحتجاجات” لكنه كرر مزاعمه حول تزوير الانتخابات وفوزه “بنتيجة ساحقة”، فقال لمثيري الشغب: “نحن نحبكم، أنت مميزون جداً”.
تثبت هذه التطورات كلها أن الرئيس هو الذي يقرر حماية الدستور، بما يتماشى مع اليمين الذي أقسمه، أو الإساءة إليه بأفظع الطرق، لا سيما عند التحريض على إطلاق حركات تمرّد واسعة، ففي عهد أي رئيس آخر، كان الحرس الوطني ليصل سريعاً و”ما كان أحد ليقترب أصلاً من مبنى الكابيتول” بحسب قول مايكل غرينبيرغر، مسؤول فدرالي سابق وأستاذ قانون في جامعة “ميريلاند”.
يظن بعض المحامين أن ترامب أصبح الآن معرّضاً لتهمة التحريض على التمرد وقد يحاول أن يعفو عن نفسه. استأنف مجلسا الكونغرس عملية المصادقة على فوز بايدن في وقتٍ متأخر من عشية يوم الأربعاء وصباح يوم الخميس، ويبدو أن ترامب خسر معظم مؤيديه الجمهوريين بعد مشهد العنف الأخير، حيث قال رئيس الأغلبية الجمهورية في مجلس الشيوخ، ميتش ماكونيل، وهو حليف سابق للرئيس لكنه يرفض اعتراض ترامب على إقرار نتائج الانتخابات: “حاولوا تعطيل ديمقراطيتنا لكنهم فشلوا. لقد فشلوا في محاولة تعطيل عمل الكونغرس، هذا التمرد الفاشل يثبت بكل بساطة مدى أهمية المهمة التي تنتظرنا، من أجل جمهوريتنا”.
يبدو أن التهديد الذي يطرحه التمرد الأخير أقلق أطرافاً أخرى في الحزب الجمهوري، وهذا ما دفعها إلى الانقلاب ضد ترامب. يضيف غرينبيرغر: “أخمد الرئيس جورج واشنطن حركات التمرد الرئاسية في عهده لأنه مخوّل دستورياً وقانونياً لاستعمال جميع الصلاحيات العسكرية الفدرالية ووكالات إنفاذ القانون للرد على أي تمرد، لكن لم يتصور أحد منذ تأسيس الجمهورية أن يحرّض الرئيس شخصياً على التمرد وألا يحاول إخماد هذا النوع من التحركات. إنها سابقة تاريخية لم يشهدها البلد يوماً”.
لم يعد الأمريكيون إذاً قادرين على التباهي بديمقراطيتهم.
ترجمة: صحيفة الجريدة