بقلم: خيرالله خيرالله – العرب اللندنية
الشرق اليوم- كان ذلك فيلما أميركيا قصيرا مسرحه مبنى الكابيتول في العاصمة الأميركية واشنطن دي.سي.
كان فيلما لا علاقة له بالأفلام الأميركية التقليدية الطويلة التي أنتجتها هوليوود منذ ما يزيد على قرن. لم ينتصر البطل كما العادة من أجل قضيّة محقّة يتصوّر الجمهور أنّه يؤمن بها. كان بطل الفيلم فاشلا. كان بطلا من دون قضيّة. لم تكن لدى ترامب من قضيّة غير ترامب نفسه. لذلك انتهى الفيلم سريعا وطويت معه صفحة مظلمة فريدة من نوعها في تاريخ الحياة الديمقراطية الأميركية.
لم يترك دونالد ترامب خطأ إلّا وارتكبه بحق الديمقراطية الأميركية وحقّ كل القيم التي قامت عليها القوة العظمى الوحيدة في العالم، والتي قد لا تبقى القوّة العظمى الوحيدة بعد سنوات قليلة بسبب الصعود الصيني. سيطرح هذا الصعود تحدّيات من نوع جديد، طابع معظمها اقتصادي، ستكون الامتحان الأهمّ الذي ستواجهه إدارة جو بايدن على الصعيد الخارجي.
ليل الأربعاء الخميس الماضي، بدا ترامب وكأنّه يعيش في بلد آخر غير الولايات المتحدة، بدا أقرب إلى انقلابي في إحدى دول العالم الثالث. اكتشف متأخّرا أن مثل هذا الأسلوب لا ينفع في بلد مثل أميركا. يشير ذلك إلى أن ترامب لا يعرف أميركا. لا يعرف بلده الذي أمضى فيه أربع سنوات رئيسا. سارع الجمهوريون إلى التنديد بما قام به الرئيس المنتهية ولايته. ندد نائب الرئيس مايك بنس بالمحتجين الذين استجابوا لدعوات ترامب إلى الاعتراض على نتائج الانتخابات.
قال بنس للمحتجين “أنتم لم تفوزوا. العنف لا يفوز أبدا”. وأضاف بنس، في أثناء الاحتجاجات، أنه جرى تأمين مبنى الكونغرس. دعا مجلس الشيوخ إلى “العودة إلى العمل” لتأكيد انتخاب جو بايدن رئيسا. بدوره، قال ميتش ماكونيل رئيس الأكثرية الجمهورية في مجلس الشيوخ “لن يتم إرهابنا وسنقوم بعملنا الليلة. ما حدث تمرد فاشل، والسلوك الإجرامي لن يسيطر على الكونغرس”.
لولا سقوط أربعة قتلى، لكان الأمر أقرب إلى فيلم هزلي كان ترامب في غنى عن لعب دور البطولة فيه كاشفا كلّ عوراته دفعة واحدة. في النهاية، لم يستطع الرئيس الأميركي المنتهية ولايته إقناع نائبه بمخالفة الدستور.
يعرف بنس، قبل غيره، أن موافقته على نتائج الانتخابات مسألة ذات طابع بروتوكولي وليست من صلاحيات نائب الرئيس الذي يرأس مجلس الشيوخ حين تدعو الحاجة إلى ذلك، ويكون صوته حاسما في حال حصول تعادل في نتيجة التصويت. عندئذ، يكون صوته حاسما.
لم يتقبل ترامب خسارة الانتخابات الرئاسية. من لا يعرف كيف يخسر، لا يعرف كيف يربح يوما. هذا ما تؤكّده مرّة أخرى حملة التحريض التي شنّها ترامب والتي توّجت باقتحام أنصاره مبنى الكابيتول مستخدمين العنف.
مثل هذا التصرّف يطرح أسئلة كثيرة. من بين الأسئلة، هل ترامب شخص طبيعي؟ من يظنّ، ولو في أحلامه، أن اقتحام الكابيتول، حيث مجلسا الشيوخ والنواب، يمكن أن يغيّر نتائج الانتخابات الأميركية، إنّما يعاني من أمراض نفسية في غاية الخطورة، خصوصا لجهة الانفصام عن الواقع.
يتمثّل الواقع في أن بايدن فاز في انتخابات الرئاسة. الفارق بينه وبين ترامب كان كبيرا. تفوّق عليه بثمانية ملايين صوت. الأهمّ من ذلك كلّه، أنّه تفوق عليه في المجمع الانتخابي الذي ينتخب الرئيس مباشرة.
من بين الأسئلة الأخرى، التي يطرحها التصرف الذي لا سابق له لرئيس أميركي خسر الانتخابات: من كان يرسم لترامب سياسته المتماسكة تجاه إيران؟ من الواضح أن الرئيس الأميركي المنتهية ولايته، الذي لم يستطع حتّى الحؤول دون خسارة الجمهوريين للأكثرية في مجلس الشيوخ، ليس شخصا في مستوى من يضع سياسة أميركية فعالة من نوع التي اتبعتها إدارته تجاه إيران. فبغض النظر عن كلّ الأخطاء التي ارتكبها ترامب، بما في ذلك تلك المتعلّقة بالاعتقاد بأنه سيغيّر من شخصية الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون، وهي شخصيّة غير قابلة للتغيير، تظلّ سياسته الإيرانية النقطة الإيجابية الوحيدة في سجلّ المغادر للبيت الأبيض.
هناك للمرّة الأولى إدارة أميركية تكشف أن المؤسسة العسكرية والأمنية في الولايات المتحدة تعرف تماما، وبأدقّ التفاصيل، ما هو النظام الإيراني القائم منذ العام 1979. لا تزال الخطب المتكررة لترامب مرجعية صالحة لفهم إيران والنظام فيها وخطورة مشروعها التوسّعي الذي بدأ بالاستخفاف بالولايات المتحدة بخطف دبلوماسييها في طهران عام 1979 لمدّة 444 يوما.
وضع ترامب حدّا لهذا الاستخفاف وكشف أن “الجمهورية الإسلامية” التي أسّسها آية الله الخميني ليست سوى نمر ورق متى تطرح جدّيا مسألة الدخول في مواجهة مع الولايات المتحدة. الدليل على ذلك، أن إيران ردّت على اغتيال الإدارة الأميركية لقاسم سليماني قائد “فيلق القدس” في “الحرس الثوري” الإيراني، في لبنان والعراق واليمن. لم يكن قصفها لقاعدة عين الأسد الأميركية في العراق سوى نوع من الردّ الفلكلوري هدفه الاستهلاك الداخلي في إيران أو في أوساط الميليشيات المذهبيّة التابعة لها.
أساء ترامب إلى نفسه وإلى بلده حيث كان ردّ الفعل حازما وحاسما. رذلت الولايات المتحدة ترامب. تبيّن أن هناك أكثرية أميركية ترفض أيّ نوع من الانقلابات وأيّ مس بالدستور والأعراف والقوانين. إنّها أكثرية جمهورية وأكثرية ديمقراطية في آن. أمّا الرعاع الذين اقتحموا مبنى الكابيتول، فهؤلاء سيظلّون هامشيين، حتّى لو وجد من يقول أن 74 مليون أميركي صوتوا لترامب. هؤلاء صوتوا في معظمهم لمن كانوا يعتبرونه رئيسا، غير تقليدي، يحترم الدستور والقانون والأعراف، فضلا عن القيم الأميركية المتعارف عليها.
لا مستقبل سياسيا لترامب الذي بات يواجه احتمال عزله قبل نهاية ولايته في العشرين من الشهر الجاري. اعتقد أن الانتخابات لا يمكن أن تخرجه من البيت الأبيض وأن اللعبة الديمقراطية عاجزة عن هزيمته. سيضطر إلى الخروج من مقرّ الرئاسة الأميركية وسيظل ما فعله درسا لكلّ سياسي أميركي تسوّل له نفسه التمرّد على اللعبة الديمقراطية.
من انتصر ليل الأربعاء الخميس، كان دولة المؤسسات. هذه المؤسسات هي قوّة أميركا وهي التي ستمنع أي سياسي أميركي من تكرار حماقة من نوع تلك التي ارتكبها ترامب. لم يعرف ترامب أميركا. انتهى الأمر بأنّ أميركا باتت لا تعرفه. كان مجرّد فيلم أميركي قصير عاد بعده كلّ شيء إلى وضعه الطبيعي بعد معالجة سريعة لشخص غير طبيعي.