بقلم: هشام ملحم – النهار العربي
الشرق اليوم- تعرضت الديموقراطية الأمريكية يوم أمس لأخطر امتحان داخلي في العصر الحديث حين قام مئات المشاغبين من أفراد الميليشيات العنصرية والمتطرفين المؤيدين للرئيس ترامب باقتحام الصرح الديموقراطي الأهم في البلاد: المبنى الرئيسي للكونغرس المعروف بالكابيتول، لتعطيل جلسة مشتركة لمجلسي النواب والشيوخ انعقدت بإشراف نائب الرئيس مايك بينس للتصديق على اختيار المجمع الانتخابي للرئيس المنتخب. وللمرة الأولى في تاريخ الولايات المتحدة يقوم رئيس أمريكي لا يزال يرفض الاعتراف بهزيمته في الانتخابات وقبل أسبوعين من انتهاء ولايته بتحريض أنصاره المتطرفين على اقتحام المؤسسة التشريعية التي تمثل الشعب الأمريكي وجوهر الديموقراطية الأمريكية في محاولة يائسة وعبثية لتغيير نتائج الانتخابات. وكان الرئيس ترامب قبل أسبوعين قد دعا أنصاره للتجمع في واشنطن في السادس من كانون الثاني (يناير) للاحتجاج على جلسة الكونغرس، واعداً إياهم بتظاهرة جامحة Wild.
وظُهر أمس خاطب ترامب أنصاره المتجمعين قرب البيت الأبيض وحضهم على السير على جادة بنسلفانيا باتجاه مبنى الكابيتول قائلاً: إنه سيسير معهم لإعطاء المشرعين الجمهوريين “الاعتزاز والصلابة التي يحتاجونها لاستعادة السيطرة على بلادنا”. ما حدث بعد ذلك صعق الأمريكيين والعالم، وهم يراقبون مئات المشاغبين يقتحمون الكابيتول، ولحقهم الآلاف من الذين حطموا زجاج النوافذ وكسروا أبواب المبنى واحتلوا القاعة الرئيسية لمجلس الشيوخ ومكاتب المشرعين ومن بينهم مكتب رئيسة مجلس النواب، نانسي بيلوسي. وبعد أكثر من ثلاث ساعات من أعمال الشغب والاشتباكات بين رجال شرطة الكونغرس وشرطة مدينة واشنطن مع المتظاهرين، قتلت خلالها متظاهرة داخل المبنى برصاص شرطي، وتوفي ثلاثة متظاهرين حول المبنى في ظروف غير واضحة، بدا أن ترامب كان صادقاً بوعده بتنظيم تظاهرة “جامحة”.
اقتحام الكونغرس جاء بعد ساعات من الإعلان عن نتائج الانتخابات الفرعية في ولاية جورجيا، والتي أعطت الديموقراطيين انتصاراً غير متوقع حين اختار الناخبون المرشحين الديموقراطيين لعضوية مجلس الشيوخ، الذي أصبح منقسماً بالنصف بين الحزبين أي خمسين عضواً لكل حزب، ما يعني أن الديموقراطيين سوف يسيطرون على المجلس، حين تشارك نائبة الرئيس كامالا هاريس في الجلسات التي تتطلب التصويت على مشاريع القوانين الهامة.
الاقتحام حدث خلال الساعة الأولى للجلسة المشتركة، التي بدت تعبيراً جدياً عن الديموقراطية الأمريكية، بخاصة أن مثل هذه الجلسات تعتبر إجرائية وبسيطة ولا تحظى عادة باهتمام إعلامي أو شعبي يذكر. وخلال دقائق تحول المشهد الديموقراطي بامتياز الى مشهد فوضوي وترهيبي وكأنه منقول على شاشات التلفزيون من عاصمة دولة اوتوقراطية في العالم الثالث. وشاهد الملايين في أمريكا والعالم عملية الاقتحام وإطلاق الغاز المسيل للدموع والقنابل الدخانية، وشوهد رجال الشرطة السرية (المكلفون بحماية نائب الرئيس) وغيرهم من العناصر الأمنية حاملين مسدساتهم الموجهة ضد الرعاع الذين كانوا يحاولون اقتحام قاعات المبنى. وسارعت الشرطة السرية إلى نقل نائب الرئيس بينس الى مكان آمن، كما قامت العناصر الأمنية الأخرى بمرافقة المشرعين الى الأنفاق والقاعات الأمنة في المبنى الى حين توقف أعمال الشغب قبل الساعة الخامسة مساء.
وعلى مدى أكثر من ثلاث ساعات التزم ترامب الذي كان يشاهد اجتياح الكونغرس من قبل رعاعه في البيت الأبيض، بالصمت حتى بعد أن ناشده قادة الكونغرس من الحزبين على لجم أنصاره ودعوتهم للتوقف عن انتهاكاتهم. وهذه هي المرة الأولى التي يتم فيها اقتحام الكابيتول من قبل الرعاع منذ 1814 خلال احتلال القوات البريطانية للعاصمة الأمريكية. وللمرة الأولى في تاريخ البلاد شاهد الأميركيون انصار ترامب وهم يحملون ويلوحون بعلم الكونفدرالية الجنوبية التي انفصلت عن الاتحاد وتسببت بالحرب الأهلية قبل أكثر من 150 سنة، داخل قاعات الكابيتول. ويعتبر العلم رمزاً للعنصرية والتمييز.
وعلى الرغم من الإدانات الشاملة لاقتحام الكابيتول وأعمال الشغب الصادرة عن الرئيس المنتخب بايدن والقيادات الجمهورية والديموقراطية في الكونغرس ومناشداتهم الخاصة والعامة لترامب لإدانة أعمال العنف والشغب، إلا إنه رفض ذلك ووجه الاهانات لنائبه بينس – المعروف بتزلفه المقزز لترامب – قائلاً: “لم يتحل مايك بينس بالشجاعة لكي يقوم بما كان يجب عليه أن يقوم به لحماية بلادنا ودستورنا وأن يعطي الولايات الفرصة للتصديق على لوائح الناخبين البارزين الحقيقيين وليس على الأسماء المزورة التي صدقوا عليها”. وكان ترامب قد طلب من بينس أن يرفض قبول لوائح الأسماء التي قدمتها الولايات المتنازع عليها مثل بنسلفانيا ونيفادا وغيرها. وكان بينس قد أبلغ ترامب في لقاء معه وعلناً في بيان أصدره انه لا يتمتع بالصلاحيات الدستورية التي تعطيه هذه السلطة.
ولكن مع اقتراب اليوم من نهايته وبعد صمته الطويل وزع البيت الأبيض شريطاً لترامب موجهاً لأنصاره قال لهم فيه انه يتفهم ألمهم وانه يحبهم ثم طلب منهم عدم استخدام العنف والعودة الى منازلهم، ولكنه جدد تضليله لهم حين قال: “لقد سرقوا الانتخابات منا”.
وكان الرئيس المنتخب بايدن قد سبقه الى إدانة الاقتحام وأعمال الشغب وطالبه بلهجة قوية بأن يطالب أنصاره بالتوقف عن انتهاكاتهم للقوانين. ووصف بايدن الاقتحام بأنه “هجوم لا سابقة له” ضد الديموقراطية الأمريكية، وأضاف: “هذه ليست معارضة، هذا إخلال بالقوانين وفوضى تقترب من حدود الفتنة، ويجب أن تنتهي الآن، وأنا أدعو هؤلاء الرعاع للانسحاب لكي تتقدم العملية الديموقراطية”. وأصدر جميع الرؤساء السابقين: جيمي كارتر وبيل كلينتون وجورج بوش الابن، وباراك اوباما بيانات ادانة قوية اللهجة ضد الرعاع. وقال اوباما: “سيذكر التاريخ عنف هذا اليوم في الكابيتول الذي حرّض عليه رئيس يواصل أكاذيبه وادعاءاته التي لا أساس لها من الصحة حول نتائج انتخابات قانونية، على انها لحظة عارٍ كبيرة على بلادنا”.
ومساء الأربعاء استأنف مجلسا النواب والشيوخ عملية فرز أصوات المجمع الانتخابي والتصويت على اعتراضات بعض المشرعين الجمهوريين، بعد ان انسحب منهم بعض المشرعين بسبب أعمال الشغب. وكانت هناك رغبة كبيرة في أوساط الحزبين حول ضرورة استئناف الجلسة بأسرع وقت ممكن للتأكيد للأمريكيين وللعالم أن المشرعين الأميركيين لن يسمحوا للرعاع وأعمال العنف أن ترهبهم. وكان لافتاً أن نائب الرئيس، مايك بينس، بعكس ترامب دان أعمال العنف بلهجة قوية، كما فعل زعيم الأغلبية الجمهورية، السناتور ميتش ماكونال. ولكن بينس وماكونال وغيرهما من المشرعين الجمهوريين تفادوا ذكر ترامب بالاسم، بعكس القيادات الديموقراطية. الاستثناء الجمهوري الوحيد، – والأكثر بلاغة وشجاعة – كان السناتور ميت رومني الذي قال: “نحن هنا بسبب أنانية رجل يدعي أنه مجروح، وبسبب فظاعات أنصاره الذين يواصل التغرير بهم منذ شهرين، والذي حرضهم هذا الصباح”. وختم كلمته بالقول: “ما حدث هنا اليوم هو عصيان حرّض عليه رئيس الولايات المتحدة”.
الساعة 3:40 صباحاً، بتوقيت واشنطن، أعلن بنس رسمياً أن جوزف بايدن صار رئيساً لأمريكا، بعد جلسة استمرت الى ما بعد منتصف الليل، قبل أن يبدأوا جدياً ببحث ما يجب أن يفعلوه لمحاسبة ترامب وضمان عدم قيامه بأعمال خطيرة ومتهورة خلال الأيام القليلة المتبقيه له في السلطة. وطرح بعض المشرعين مقترحات تراوحت بين محاكمة ترامب مرة أخرى، او محاولة إقالته (بالتعاون مع نائبه بينس، وإن كان هذا الخيار غير مرجح) إضافة الى توجيه تأنيب برلماني له. وسارعت صحف أميركية الى المطالبة بإقالة ترامب وكان من بينها صحيفة “الواشنطن بوست” التي نشرت افتتاحية باسم اعضاء مكتب إدارتها جاء فيها أن ترامب “أثبت أن بقاءه في منصبه يشكل خطراً كبيراً على الديموقراطية الأمريكية، ولذلك تجب إقالته”. وطالب حاكم ولاية الينوي الديموقراطي بإقالة ترامب، كما طالب حاكم ولاية فيرمونت الجمهوري ايضاً بإقالته. جاءت هذه التطورات على خلفية تقارير صحافية ذكرت أن بعض المسؤولين في البيت الأبيض سوف يستقيلون في الأيام المقبلة من بينهم مستشار الأمن القومي، روبرت أوبرايان. وساهم تحريض ترامب أنصاره لاقتحام مبنى الكابيتول الى تعميق المخاوف في الأوساط السياسية والامنية من قيام الرئيس المحاصر في البيت الأبيض باتخاذ إجراءات داخلية أو خارجية يمكن أن تزج البلاد في أزمات خطيرة لمجرد أنه يريد الانتقام من الجمهوريين الذين تخلوا عنه، ومن خلفه الرئيس المنتخب جوزف بايدن الذي ألحق به هزيمة انتخابية قاسية لا يريد قبولها أو الاعتراف بها.